الاثنين، 8 أكتوبر 2012

الجغرافية العسكرية


الجغرافية العسكرية
تهتم الجغرافيا العسكرية بدراسة الأرض التي تجري عليها العمليات العسكرية، ومنذ فجر التاريخ الإنساني تشكّل المعلومات الجغرافية عنصراً مهماً من عناصر النزاع العسكري، وتتخذ العمليات العسكرية طابعاً جغرافياً لأنها تجري على موقع ما، ولذلك الموقع بيئته الطبيعية المتميزة، ومناخه، ونظامه الثقافي. والعمليات العسكرية منظومة معقدة ثلاثية الأبعاد تتألف من الفعل وردود الأفعال، وتمتد من جبهة القتال حتى منشأ الإمداد والتموين عبر الأجواء والمحيطات، وتتألف أساساً من منظور جغرافي من الوقت والمسافة، وطبيعة الأوضاع السائدة ضمن إطار ذلك الوقت وتلك المسافة.
ورغم أن الأسلحة والقيادة والتدريب وتخطيط المعركة، تؤثر إلى حدٍ كبير على الحملات، فإن الجغرافيا لها تأثير حاسم على النتيجة النهائية التي تسفر عنها الحرب أو المعركة، لذا ينبغي أن يضع المخططون العسكريون هذه العلاقة الجوهرية نصب أعينهم عند التخطيط للعمليات العسكرية، لاسيما عمليات عسكرية بحجم ونطاق العملية التي تجري أحداثها في أفغانستان. ومن هذا المنطلق ينبغي على القادة العسكريين على كافة المستويات دراسة الأوضاع الطبيعية والثقافية التي حددت نتائج المعارك عبر التاريخ، فجميع العمليات بغض النظر عن حجمها ونطاقها تتحكم فيها بيئة العمليات التي تشمل: الطقس، والمناخ، والأرض، والأوضاع الثقافية، إذ يتحتم على المخطط العسكري الناجح دراستها، وتقدير تأثيراتها، واختيار طرق العمل الملائمة، وتعديل خططه وفقاً للتحليلات الدقيقة للعوامل الجغرافية التي يتميز بها موقع معين.



تعريف الجغرافيا العسكرية
تمثل الجغرافيا عمقاً أساسياً لكل التحركات العسكرية وسير العمليات الحربية حيث تمثل الأرض بواقعها الطبيعي والبشري مسرحاً للعمليات العسكرية و تحدد الجغرافيا العسكرية المحاور الرئيسية على الجبهة، التي تتوزع عليها القوات، لشن هجوم مباشر على القوات المعادية بعد تحديد مناطق الضعف فيها,,, في العلم العسكري الحديث، يمكن اعتبار تعريف معجم مصطلحات الجيش الأمريكي للجغرافيا العسكرية أفضل تعاريفها دقة وشمولاً، فهو يعرفها بأنها : " حقل متخصص من الجغرافيا بالتعامل مع الظواهر الطبيعية والظواهر التي صنعها الإنسان ، والتي قد تؤثر في مسار العمليات العسكرية أو في التخطيط لها"، وهذا يعني دراسة الأرض (terrain ) بسهولها ، وجبالها ، وأوديتها وتلالها ، وأي معالم طبيعية تبرز على سطحها، كما تشمل الدراسة المجاري المائية، والطرق ، والمراكز العمرانية ، وغير ذلك من المعالم .

وتهتم الجغرافيا العسكرية بدراسة الأرض التي تجري عليها العمليات العسكرية، ومنذ فجر التاريخ الإنساني تشكّل المعلومات الجغرافية عنصراً مهماً من عناصر النزاع العسكري، وتتخذ العمليات العسكرية طابعاً جغرافياً لأنها تجري على موقع ما، ولذلك الموقع بيئته الطبيعية المتميزة، ومناخه، ونظامه الثقافي. والعمليات العسكرية منظومة معقدة ثلاثية الأبعاد تتألف من الفعل وردود الأفعال، وتمتد من جبهة القتال حتى منشأ الإمداد والتموين عبر الأجواء والمحيطات، وتتألف أساساً من منظور جغرافي من الوقت والمسافة، وطبيعة الأوضاع السائدة ضمن إطار ذلك الوقت وتلك المسافة.
ورغم أن الأسلحة والقيادة والتدريب وتخطيط المعركة، تؤثر إلى حدٍ كبير على الحملات، فإن الجغرافيا لها تأثير حاسم على النتيجة النهائية التي تسفر عنها الحرب أو المعركة، لذا ينبغي أن يضع المخططون العسكريون هذه العلاقة الجوهرية نصب أعينهم عند التخطيط للعمليات العسكرية، ومن هذا المنطلق ينبغي على القادة العسكريين على كافة المستويات دراسة الأوضاع الطبيعية والثقافية التي حددت نتائج المعارك عبر التاريخ، فجميع العمليات بغض النظر عن حجمها ونطاقها تتحكم فيها بيئة العمليات التي تشمل: الطقس، والمناخ، والأرض، والأوضاع الثقافية، إذ يتحتم على المخطط العسكري الناجح دراستها، وتقدير تأثيراتها، واختيار طرق العمل الملائمة، وتعديل خططه وفقاً للتحليلات الدقيقة للعوامل الجغرافية التي يتميز بها موقع معين.
الحرب والجغرافيا
قال المفكر الصيني الشهير سون تسي Sun Tze قبل نحو 2500 سنة في كتابه القيّم فن الحرب The Art of war :" إن أولئك الذين لا يعرفون أحوال الجبال والغابات والأودية الخطرة والسبخات والمستنقعات لا يمكنهم قيادة جيش " .
هناك دور متبادل في كل زمان ومكان بين البيئة environment أو الجغرافيا الطبيعية physical geography وبين المعركة ، فقد أدى السعي الدؤوب عبر قرون طويلة لقهر العدو إلى التقدم الكبير في صنع الأسلحة وتطوير التقنيات وبدرجات متفاوتة من أجل ضمان السيطرة على المكان space وخطوط المواصلات lines of communications . وكان للعداوة بين بني البشر ، ولاستمرار الصراع شبه تأكيد في أن المستقبل سيكشف عن أدوات ووسائل أكثر دمارا ورعبا وقت أي حرب قادمة ، وظهر جليا أن العناصر الجغرافية الأساسية كانت على الدوام عناصر هامة في إدارة المعركة وفي حصيلة هذه المعركة.
      إن دراسة العلاقات والروابط بين عدد من العمليات العسكرية المختلفة ، ومكوناتها وعناصرها الجغرافية ستُظهر شواهد على أن الطقس والمناخ والأرض terrain والتربة والغطاء النباتي هي عوامل مؤثرة بل وأحيانا حاسمة في الصراع ، كما سيتبين أن الحرب والبيئة تشتركان بشكل متنوع ومتداخل وغالبا متغير . وإن إجراء المقارنة لمعارك تأثرت بشكل رئيس بأحد عناصر البيئة ستظهر أمور متشابهة وأخرى مختلفة ، وفي حين أن بعض الصراعات قد اختلفت أوضاعها ونتائجها كثيرا تبعا لتغير الظروف والتقنيات والآراء، لكن يبقى أمر دون تغيير وهو أن ميزة بيئية معينة تكون لأحد طرفي النزاع كعنصر قوة ، لكنها في الوقت نفسه هي سوء طالع للطرف الآخر ، ويمكن لوضع كهذا أن ينقلب في ساحة المعركة القادمة.
      كان الطقس عاملا هاما على الدوام في الحرب. ومن أمثلة ذلك الأثر السيئ للأعاصير على أسطول قبلاي خان (1216 – 1294) حفيد جنكيز خان ، حين أراد عبور مضيق كوريا بهدف غزو اليابان ، فقد هبت عواصف أوقفت الغزو، وكانت من القوة أن أطلق عليها المدافعون اليابان " كاميكازي " وتعني " الرياح الإلهية " ومنها جاءت تسمية الطائرات الانتحارية اليابانية في الحرب العالمية الثانية تذكارا لتلك الرياح التي أنقذت اليابان مرتين في العامين 1274 و1281 . وبعد نحو 6 قرون تجلى اهتمام بالغ برصد حالة الجو في منطقة القنال الإنجليزي عام 1940 حيث كانت تبذل جهود للحيلولة دون إبادة نحو ثلث مليون جندي بريطاني وفرنسي بإخلائهم من ميناء دنكرك- الميناء الوحيد الباقي - على الساحل الشمالي الفرنسي بعد سقوط فرنسا بيد الألمان . وتكرر الاهتمام الكبير بنفس المنطقة عندما تم إنزال الحلفاء في النورمندي في 6/6/1944 لتحرير فرنسا من الألمان ، فقد أوضح علماء الأرصاد الجوية الألمان للقيادة الألمانية أن الحالة الجوية ( الطقس ) غير مناسبة للإنزال الذي يتوقع أن يقوم به الحلفاء عبر القنال الإنجليزي ، ومن ثم لم تكن القوات الألمانية مستعدة لذلك ، بينما كانت قوات الحلفاء تتابع باهتمام كامل أي فرصة لتحسن الحالة الجوية لإنزال آلاف الجنود المنتظرين ، وقد تم الإنزال والهجوم وهُزمت القوات الألمانية لأسباب منها سوء تقديرها لدور الأحوال الجوية السائدة والمتوقعة آنذاك.
    كثيرا ما استفاد البادئ بالحرب من ظروف الطقس غير المناسب، ومنها أحوال الجو الضبابي والمتواصل لأيام عدة، والمصحوب بغيوم منخفضة، وتساقط أمطار ونحوها، حيث ساهمت هذه الظروف وبحدة على فعالية الهجوم الألماني في كانون الأول (ديسمبر) 1944 في معركة Bulge في بلجيكا حيث كان آخر هجوم ألماني كبير في الحرب العالمية الثانية ، وكذلك الحصار الطويل الذي قامت به قوات الفيت كونغ Viet Cong واستمر عدة أشهر لقاعدة خي سانة Khe Sanh الأمريكية إبان الحرب الفيتنامية . وعلى النقيض مما سبق فقد سببت بضع ساعات من تساقط المطر غير المتوقع على التربة الغنية بالطين في ولاية فرجينيا في شرق الولايات المتحدة ، سببت إيقاف هجوم كبير تماما كانت تقوم به قوات الجيش الاتحادي قبل اشتباك مّدبر مع القوات الجنوبية إبان الحرب الأهلية الأمريكية (1861 – 1865)، مما سبب سوء صيت ما سمي Mud March عام 1863.
     يلعب المناخ أدوارا عدة في المعركة، ومنها ما سببته الأحوال المناخية المعتدلة نسبيا والرطبة باستمرار على سواحل شمال غرب أوروبا في الحرب العالمية الأولى(1914– 1918) إذ جعلت ساحة المعركة في الفلاندرز Flanders( مناطق ساحلية منخفضة من فرنسا وبلجيكا) مستنقعات طينية سببت الشقاء للجنود لمدة 4 سنوات ، وفي النهاية لم تكن سببا في حسم الأمر لأي طرف في الصراع.
  كانت فصول الشتاء الطويلة وشديدة البرد نموذجا للمناطق الداخلية من افصى شرق قارة أوروبا حيث ساهمت بقدر كبير في معاناة وهزيمة الجيوش غير المجهزة لمواجهة أحوال المناخ ، والتي قادها شارلز الثاني عشر (1682- 1718) ملك السويد ، ونابليون بانوبارت (1769- 1821) إمبراطور فرنسا ، وأدولف هتلر (1889- 1945) الزعيم النازي ، حيث هاجم كل منهم روسيا ، وفشل فشلاً ذريعا . وعلى نحو مختلف كانت درجات الحرارة المرتفعة والمصحوبة بالجفاف والرياح والغبار في شمال أفريقيا تشكل مشاكل تعبوية للقادة الذين تحاربوا هناك خلال حرب الصحراء في الفترة 1941 – 1943 إبان الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) .
   كانت النباتات الكثيفة في منطقة العروض الوسطى ذات دور عظيم بشكل عام لكل من القوات الاتحادية (الشمال) والقوات الكونفدرالية (الجنوب) خلال الحرب الأهلية الأمريكية . مثلان حيّان من المعارك التي جرت في المنطقة المسمّاة قفر فرجينيا Wilderness of Virginia في عام 1863 ثم في العام التالي ، وبعد عقدين من الزمن في منطقة مدارية مماثلة ومطابقة في معظم أحوالها إبان الحرب العالمية الثانية ، وخلال الصراع للسيطرة على غينيا الجديدة ، وفي عام 1954 وقعت مأساة القوات الفرنسية في ديان بيان فو Dien Bien Phu وهي قرية في شمال غرب فيتنام قرب حدودها مع لاوس، وكانت مركزا للجيش الفرنسي ، وقد هزمتهم القوات الفيتنامية بعد حصار طويل ، وما حصل عام 1965 من معركة ضارية في وادي إيا درانغ Ia Drang valley في جنوب فيتنام مع القوات الأمريكية.
   ومرة أخرى لعب الوقت والأرض دورا عظيما في الحرب عندما قام الجنرال الأمريكي جاكسون والشهير باسم ستونول عام 1861 بمناورات أسطورية في وادي شناندوة ، كما كانت طبيعة جبال بلو ردج وامتدادها نحو الشمال الشرقي سببا في توفير التخفية وفرصة للمسير الطويل بموازاتها بقيادة الجنرال الأمريكي لي عامي 1862 و1963 لغزو ميريلاند وبنسلفانيا إبان الحرب الأهلية الأمريكية. وعلى خلاف ما سبق جرى عام 1916 قتال بين القوات الألمانية والفرنسية قرب فردان Verdan وهي قرية ذات موقع استراتيجي حصين على نهر موز Meuse في شمال شرق فرنسا ، حيث جرى القتال بين الطرفين لمدة تزيد على 10 أشهر بهدف السيطرة على منطقة تلالية غابية وعرة شكلت أحد معاقل الجبهة الغربية ، حيث وقع تغير بسيط في خط المواجهة في أرض تعتبر أكثر ما تكون مناسبة للدفاع ، وقد خسر الطرفان الكثير ، وتشهد على ذلك المقابر والنصب التذكارية الكثيرة جدا هناك.
   كانت مناطق المعالم والإمتدادات الجليدية المسماة ثلاجات glaciers ساحات معارك ، حيث أثّرت بشكل فاعل على مجريات المعارك بحكم تكوينها ، وظهر ذلك في معركة ماساتشوستس بانكر هل ، والجزء الغربي من لونغ آيلاند في ولاية نيويورك الأمريكية عام 1775. وعل مستوى أكبر كان دور الأرض المرتفعة قليلا والممتدة من وارسو العاصمة البولندية إلى منسك عاصمة روسيا البيضاء إلى سمولنسك في غرب روسيا ، إلى ما بعد بوردينو غرب موسكو ونحوها ، إذ تشكل هذه المنطقة إرسابات لمواد على حافة قلنسوة ice - cap جليدية واسعة وُجدت من عدة آلاف من السنين. وخلال قرون ثلاثة متتالية سارت جيوش ثلاث ( سويدية وفرنسية وألمانية ) دروبا وطرقا مشابهة ، وعلى الإرسابات نفسها ، وقطعت مئات الكيلومترات نحو روسيا لتصل إلى نهايتها المحتومة وهي الهزيمة . وفي مكان آخر يختلف تماما عن البيئة السابقة تحاربت قوات نمساوية وإيطالية في الحرب العالمية الأولى في عين المنطقة من جبال الألب، وفي مواقع تغيرت بضع عشرات من الكيلومترات خلال عدة أشهر ، شكلت اضطرابات الطقس على ارتفاعات كبيرة ، ومناطق وعرة حفرتها كتل الجليد شكلت ساحة هائلة للمعارك.
    أما المياه فهي عنصر هام ودائم في الحرب . فقد تأثرت معارك الجُزُر الكبرى بالأحوال الجوية البحرية ، ومثالها جزيرة تاراوا Tarawa وهي دولة كريباس الحالية ، وجزيرة أوجيما Iwo Jima اليابانية ، وكانت العمليات الهجومية البرمائية على منطقة ميناء إنشون Inchon الكوري الجنوبي أمثلة لعمليات ناجحة جداً . أما أنزيو على الساحل الغربي لإيطاليا فقد وقعت فيها هزيمة ، إذ كان تأثير الأحوال البحرية بما فيها من مد وجزر وعواصف إضافة لمواد تكوين الشاطئ ، وطوبوغرافية الساحل واضحة. وتبدو صعوبة عبور الأنهار بوضوح بما حلّ بنابليون عند برزينا Berezina لدى تقهقره عن روسيا عام 1812 ، وما حدث عند ما يسمى bridge too far عند آرنهايم الهولندية خلال العملية المسماة Market Garden عام 1944 من إنزال إنجليزي شهير . وعلى النقيض التام كان حسن طالع الحلفاء في الاستيلاء على جسر منعزل متبق على نهر الراين في مدينة رماجن Remagen الألمانية على الضفة اليسرى لنهر الراين قرب مدينة بون Bonn في أوائل عام 1945 ، مما حطم الدفاعات الألمانية على امتداد أطول أنهار غرب أوروبا.
    تبين الوقائع والأحداث السابقة أن لمعالم سطح الأرض والظاهرات الطبيعية الأخرى آثارا منفردة أو مجتمعة في تشكيل ظروف الصراع والقتال ، وقد تصبح ذات دور حاسم في نتائجهما . ولا يعرف أحد على وجه التأكيد كيف ستجري الحروب القادمة ، وفق ظروف قائمة ومحتملة، وأسلحة ومعدات وتقنيات يستمر تحديثا . كما سيبقى دور العناصر الطبيعية للمكان من أرض وأحوال جوية ونبات دورها طالما بقيت قوات برية أو بحرية أو جوية تسعى لاحتلال مكان ، وطالما بقي هناك رغبة في كسر إرادة شعب أو أمة ما.
توقيع  الليث الجسور
الجغرافيا العسكرية والحرب البرية
   غالباً ما يكون الهدف من الحرب البرية الضغط المباشر على أفراد الشعب المعادي، بتدمير وسائل المقاومة لديه، والسيطرة على مراكز القوى التي يعتمد عليها. بمعنى أن الهدف الرئيسي من الحرب البرية تحطيم جيش العدو عن طريق تدمير مراكز الصناعات الحربية، والمدنية، والمراكز التجارية، باعتبار أنها تحد من قدرة العدو على القتال وإشعاره بأنه غير قادر على إحراز أي نصر عسكري وكشفه أمام شعبه بأنه غير قادر على الحفاظ على أراضيه مما يؤدي إلى انهيار الروح المعنوية لدى الشعب واستسلامه أمام عدوه.
     وتحدد الجغرافيا العسكرية المحاور الرئيسية على الجبهة، التي تتوزع عليها القوات، بشن هجوم مباشر على القوات المعادية بعد تحديد مناطق الضعف فيه، حتى تتمكن من الدخول إلى أراضيه، أو التسلل من حوله للوصول خلف صفوفه لقطع طرق النقل والمواصلات، وبالتالي شل حركات الإمداد والتموين إليه، وتراعي الجغرافيا العسكرية في ذلك العوائق الطبيعية مثل التضاريس والمناخ، وتشترك مع الأفرع العسكرية في تجهيز الإمكانيات اللازمة للتغلب عليها. فمثلاً في حرب أكتوبر 1973، استطاعت القوات المسلحة المصرية أن تعبر العائق المائي المتمثل في قناة السويس من ضفتها الغربية إلى الضفة الشرقية بالقوارب المطاطية ، لمفاجأة العدو، واستغلال مراكز الضعف في جبهته ، ثم مُدَّت بالآليات والمركبات بعد بناء كوبري سابق التجهيز. أي أنه مجرد أن توضع الخطط الإستراتيجية، ويُحدد الهدف، تنطلق القوات نحو الهدف بعد دراسة وسائل الحركة والطرق، التي تتبعها الجيوش مع وضع جدول زمني للتقدم، ومراعاة العوائق التي قد تحد من كفاءة الحركة.
التضاريس وتأثيرها على العمليات العسكرية
    لاشك أن هناك صلة وثيقة بين جغرافيا المنطقة والحرب، حيث إن التضاريس هي الهيئات الطبيعية التي تدور المعارك عليها. فليست ثمة معركة أو حملة عسكرية لم تلعب فيها الأوضاع العسكرية - الأرض والمنظومة الثقافية والتأثير الشديد لعاملي المناخ والطقس - دوراً حاسماً في عملية اتخاذ القرار العسكري، إذ يتحتم على القادة وأركان التخطيط تخطيط العمليات بما يناسب الأوضاع الطبيعية والمعركة. ورغم أهمية التدريب الجيد والقيادة الناجحة وتفوق الأسلحة والمذهب العسكري في كسب المعارك، إلاّ أن الجغرافيا لها تأثير كبير على النتيجة الحاسمة للحرب. فينبغي على القادة - على كافة المستويات - أن يضعوا نصب أعينهم العوامل الطبيعية والثقافية الأساسية التي تحدد نتائج المعارك، ولعل من أهم تلك العوامل القيود التي يفرضها عاملا الوقت والمكان، والاعتبارات الجغرافية الثابتة المتمثلة في الأرض والطقس والمناخ. علاوة على ذلك، فإن دروس التاريخ تبين أن القائد بوسعه استغلال الأوضاع العسكرية بدهاء للتغلب على خصم يفوقه عدداً وعدة، أو يتمتع بمزايا أرضية واضحة. وتناقش هذه المقالة الموجزة أحد وقائع الحرب الأهلية الأمريكية في مسرح العمليات الغربي عام 1862م.
نبذة تاريخية
    لقد لعبت الأرض - على الدوام - دوراً بارزاً في النزاع. ورغم أن الجغرافيا العسكرية لم تظهر كعلم له تعريفاته إلاّ مؤخراً، فإن الأهمية التي تكتسبها الجغرافيا والأرض في الحرب قديمة قدم التاريخ. فلم يتوافر علماء الجغرافيا العسكرية لتحليل الأرض لجيش أثينا المؤلف من عشرة آلاف جندي أثناء دفاعه عن سهول "ماراثان" عام 490 ق.م، بيد أن قادة ذلك الجيش قد وضعوا في حسبانهم أهمية الأرض عند مناقشتهم لخطة المعركة على المنحدرات المطلة على جيش الفرس الذي كان يتولى قيادته "دايروس" الأكبر على الشاطئ. وعلى النقيض من ذلك فإن جيش الفرس - الذي كان يفوق الإغريق عدداً بنسبة 6:1 - لم يضع أهمية للأرض عند اتخاذه قرار النزول إلى اليابسة، وإقامة معسكر على سهول "ماراثان"، فجعلوا البحر خلفهم والجبال أمامهم والأنهار والمستنقعات على أجنحتهم. ولذلك لم يتوفر لهم مجال كاف للمناورة ضد "فالاناكس" الإغريق، وكاد أن يبيدهم عن بكرة أبيهم بعملية التفاف مزدوج.
وبعد عشر سنوات من تلك الواقعة، أي عام 480 ق.م، زحف قائد فارسي آخر يدعى "اكسيرس" على رأس جيش عرمرم لكسر شوكة الإغريق. وكان قوام ذلك الجيش (000ر150) جندي، وقوة بحرية تبلغ (200ر4) سفينة. فاستغل الإغريق - رغم قلة عددهم - معرفتهم الجيدة للأرض في اختيار مواقعهم الدفاعية. وتضمنت هذه الخطة الدفاعية البسيطة أن تتمركز قوة حماية صغيرة عند ممر ضيق في مركز "ثيرمابيلي". وفي هذا الموقع، أبلى جيش صغير قوامه (000ر7) جندي بلاءً حسناً لصد الجيش الفارسي المؤلف من (000ر150) جندي، وما كان ذلك ليحدث لولا طبيعة الأرض. فقد كان عرض ممر "ثيرمابيلي" لايتجاوز كيلومتر واحد، وعلى أحد جانبيه البحر وعلى الجانب الآخر جبال شديدة الانحدار. وبالاستخدام الحاذق للأرض منع القادة الإسبارطيون جيش الفرس من حشد كافة طاقاته، وتمكنوا من تثبيت ذلك الجيش لعدة أيام، حتى وجد قائد الفرس "اكسيرس" ممراً بين الجبال نفذ من خلاله مسيراً ليلياً، وأخذ الجيش الإسبرطي على حين غرة من مؤخرته. ورغم أن جيش الفرس قد كسب تلك المعركة إلاّ أن عملية الإعاقة الناجحة التي نفذها الإسبارطيون قد تسببت في خسارتهم للحرب في نهاية المطاف.
ويوضح المثال الذي أوردناه آنفاً، أن قوة عسكرية صغيرة قد تمكنت من هزيمة أو إعاقة جيش يفوقها عدداً بفضل الاستخدام الحاذق للأرض. وهناك عديد من الأمثلة الأخرى على براعة القادة في استغلال الأرض لتحقيق نصر صعب المنال. فعلى سبيل المثال، تُعد المناورة الأسطورية التي قام بها الجنرال الأمريكي "استونوول جاكسون" في وادي "شناندوا" عام 1862م مثالاً رائعاً لمعرفة الأرض. وفي عام 1940م تفادى الجيش الألماني شن هجوم أمامي، واخترق غابة "الأردنيز" الكثيفة بتسع فرق بانزرللالتفاف حول خط "ماجينو"، مما عجل بانهيار الجيش الفرنسي القوي. وكمثال أخير، في عام 1973م وضع المصريون خطة بارعة للقضاء على المزايا الأرضية التي يتمتع بها الإسرائيليون من جراء إقامتهم لخط بارليف لحمايتهم من ناحية قناة السويس. ونفذ المصريون الخطة بدقة متناهية حتى أجبروا الإسرائيليين على الخروج من تحصيناتهم وتاهوا على وجوههم في صحراء سيناء.
ويتلخص موضوع هذه المقالة الموجزة التي تكتسي صبغة الجغرافيا العسكرية في أن جيشاً اتحادياً أمريكياً صغيراً ومعه قوة بحرية قد اعترضته نقطة دفاعية حصينة اتخذها المتمردون عند أحد تعرجات نهر المسيسبي. وقد انتخب المتمردون هذه القاعدة - التي أطلق عليها اسم الجزيرة رقم (10) - بعناية فائقة، إذ تتوافر لها الحماية من المستنقعات والأراضي المغمورة بالمياه ومن النهر نفسه. ومن الواضح أن المتمردين كانوا يتمتعون بمزايا أرضية جيدة بسبب عدم وجود طرق اقتراب برية إلى القاعدة دون عبور النهر، ولكن موقع القاعدة يفصل بين الجيش الاتحادي وسفنه الحربية المساندة. وكان على القائد الاتحادي - الجنرال بوب - إخضاع معقل المتمردين لأن المهمة المنوطة به تتمثل في فتح نهر المسيسبي للملاحة حتى مدينة ممفيس في ولاية تنيسي. وهكذا لم يكن أمامه سوى خيارين: إما شن هجوم أمامي عبر النهر على الجزيرة رقم (10)، أو تنفيذ انسحاب يستغرق وقتاً طويلاً، ومن ثم اللجوء إلى وسائل أخرى لإجبار المتمردين على الخروج من قاعدتهم. ولكن الوقت لم يكن في صالح الجنرال بوب، مما اضطره إلى إيجاد حل بسيط أسفر عن تجريد المتمردين من المزايا الأرضية التي كانوا يتمتعون بها، وقلب جغرافية المنطقة إلى شرك لايمكن الفكاك منه. وهكذا تمكن الجنرال بوب - بفضل استخدامه الجيد للأرض - من عبور النهر، وإجبار القاعدة على الاستسلام دون خسائر تذكر، ووقع بين يديه (7000) أسير من المتمردين وعدد كبير من الأسلحة، وفتح نهر المسيسبي للملاحة حتى مدينة ممفيس.
الأوضاع العسكرية: الأنهار والحرب
    لقد لعبت الأنهار دوماً دوراً حاسماً في الحرب، إذ إن الأنهار - بما فيها من تعرجات وسهول تغمرها الفيضانات - تتسبب في مشاكل تكتيكية وهندسية جمة. وكانت الأنهار الواسعة ذات التيار الجارف تمثل عقبة كؤوداً لم تتمكن الجيوش القديمة من عبورها، بيد أن التطورات التقنية التي طرأت قد تبعها تحسن في تكتيكات عبور الأنهار، بيد أن تلك الابتكارات لم تضمن النجاح التام بسبب التأثيرات الكبيرة الناجمة عن عوامل العدو، والجغرافيا، والطقس. ولعل خير شاهد على ذلك، الكارثة التي حدثت أثناء محاولة عبور نهر الراين في اإيطاليا خلال شهر يناير 1944م، وعملية الإنزال الجوي الفاشلة التي نفذها الحلفاء لعبور نهر الراين أيضاً في شهر سبتمبر 1944م. كما أن الصعوبات التي واجهتها الفرقة الأولى المدرعة الأمريكية مؤخراً في عبور نهر "سافا" إلى البوسنة في شهر يناير 1996م تعكس التعقيدات التي تكتنف عمليات عبور الأنهار. ورغم أن الفكرة السائدة عن الأنهار أنها تشكل عوائق، إلاّ أن الجيوش الغازية قد استخدمت تلك الأنهار كطرق رئيسة في غزوها. ولعل أوضح مثال على ذلك ما حدث في مسرح العمليات الغربي أثناء الحرب الأهلية الأمريكية.
الأنهار وأوضاع الحرب الأهلية
عندما اندلعت الحرب الأهلية الأمريكية استدعت الاستراتيجية الاتحادية شن هجوم عسكري مدبر في مجرى نهر المسيسبي لشق صفوف التمرد، وفتح ذلك النهر في وجه التجارة الاتحادية، وقد أطلق على تلك العملية اسم (خطة اناكوندا) . بل إن الجيش الاتحادي قد سلك كافة الأنهار الرئيسة في مسرح العمليات الغربي - المسيسبي، وكمبرلاند وتنيسي - في ذلك الغزو للنفاذ إلى الجناح الأيسر من خط دفاع المتمردين (انظر الخريطة رقم 1)، وقد فطن الجنرال يو.أس.غرانت إلى أهمية تلك الأنهار منذ الوهلة الأولى، إذ إن نهري كمبرلاند وتنيسي يتجهان مباشرة إلى ولاية تنيسي ذات الأهمية الاستراتيجية. وفي حالة تنفيذ هجوم سريع لاختراق هذه الولاية، والسيطرة على النهرين، فإن ذلك سوف يترتب عليه فصل الجناح الغربي للجنرال "البريت سيدني جونستون"، ويفتح منطقتي ناشفيل وغاتنوغا لهجوم سهل من جانب الجيش الاتحادي. وبالفعل عمل الجنرال غرانت على تنفيذ هذه الخطة بمساندة أسطول نهري صغير وتمكن من الاستيلاء على قاعدتي "هنري" و "دونلسون" في أوائل شهر فبراير 1862م. وقد كان ذلك نصراً مؤزراً لأن الجنرال غرانت أجبر جونستون إلى التقهقر جنوباً لمسافة (200) ميل حتى وصل إلى مدينة "كورنث" على نهر المسيسبي فوقعت ناشفيل وكافة المناطق القريبة من ولاية تنيسي في قبضة الجيش الاتحادي. واستثمر الجنرال غرانت فوزه بشن هجوم سريع على امتداد نهر تنيسي حتى وصل إلى بتسبرغ حيث دارت معركة "شيلو" الدموية في يومي 6و7 أبريل 1862م.
وضمن ذلك الهجوم الذي شنه الجيش الاتحادي جنوباً على امتداد الأنهار القريبة، تزامن هجوم آخر للاستيلاء على نقطة حصينة للمتمردين تسد الطريق إلى تعرج كبير في نهر المسيسبي على شكل "s" عند الجزيرة رقم (10)، بالقرب من مدينة مدريد الجديدة في ولاية ميسوري (انظرخريطة رقم 2). وتُعد الجزيرة رقم (10) موقعاً استراتيجياً مهماً لأنها تسد النهر تماماً، علاوة على أنها آخر أرض دفاعية قبل مدينة ممفيس، وينعطف عندها نهر المسيسبي انعطافاً حاداً. وقد كان هدف العملية التي نفذها الجيش الاتحادي هو الجزيرة رقم (10) (أطلق عليها هذا الاسم لأنها الجزيرة العاشرة إلى الجنوب من ملتقى نهري أوهايو والميسيسبي).
جغرافية الجزيرة رقم (10)
    تقع الجزيرة رقم (10) أسفل أحد تعرجات نهر الميسيسبي المتجهة جنوباً وبالقرب من مدينة مدريد الجديدة أعلى منعطفه شمالاً (خريطة رقم 3). وتغمر المياه البر الرئيس لهذه الجزيرة من جهتي الجنوب والشرق، وتكثر به المستنقعات، مما يعرقل حركة الدخول للحصن أو الخروج منه. ولا يوجد طريق اقتراب بري للاستيلاء على الجزيرة إلاّ عبر النهر عن طريق مدينة مدريد الجديدة أو طريق فردي عند "تبتونفيل". ويتفق عديد من الآراء على أن القاعدة منيعة بكافة المقاييس، إذ يتحصن بها (7000) جندي من المحاربين القدامى مزودين ب (19) قطعة من الأسلحة الثقيلة وتساندهم خمس سرايا مدفعية على ضفة النهر المقابلة لولاية تنيسي.
وعلاوة على هذه الدفاعات البرية توجد أسلحة السفن الحربية في الأسطول البحري الصغير. ولذلك فمن الواضح أن القوات البرية والبحرية الاتحادية كانت تخوض حرباً مزدوجة - وواحدة ضد قوات ضخمة من المتمردين، والثانية ضد العوامل الجغرافية المتمثلة في الأراضي المغمورة بالمياه والتيار الجارف والمرتفعات الرملية عند المنعطفات القريبة من القاعدة.
تولى الجنرال "بوب" قيادة الجيش الاتحادي المؤلف من (000ر20) جندي يسانده أسطول بحري صغير تحت إمرة الأدميرال "فوت" الذي عرك مثل هذا النوع من العمليات، إذ تولى في السابق قيادة الأسطول البحري الذي حقق نصراً مؤزراً ضد تحصينات قاعدتي "هنري" و "دنيلسون" مع الجنرال غرانت في شهري يناير وفبراير عام 1862م. ورغم أن الجيش الاتحادي كان يفوق قوات المتمردين عدداً، إلاّ أن التحصينات المنيعة والعوامل الجغرافية - سرعة تيار نهر المسيسبي ومنعطفاته وكثرة المستنقعات وغزارة المياه - شكلت عوائق طبيعية كبيرة في وجه قادة الجيش الاتحادي. وكان طريق الاقتراب البري الوحيد للقاعدة على الضفة الغربية من نهر الميسيسبي عن طريق مدينة مدريد الجديدة. ولكي يعبر جيش بوب إلى الضفة المقابلة للوصول إلى القاعدة كان لابد من توافر وسائل نقل وسفن حربية لإسكات بطاريات المدفعية التي تدافع عن الشاطيء، إلاّ أن التحصينات القوية في الجزيرة رقم (10) كانت تحول بين الجيش الاتحادي وهذه السفن الحربية.
معركة الجزيرة رقم (10)

    بدأت المعركة بداية حسنة في صالح الجيش الاتحادي، إذ سرعان ما استولى الجنرال بوب على الجزيرة رقم (10) في العاشر من شهر مارس. وقد كان على صواب حينما أراد أن يدفع بجنوده عبر النهر إلى الجنوب من الجزيرة رقم (10) لتطويق حاميتها والاستيلاء عليها تحت غطاء نيران الحماية من الأسطول البحري.
فلو لم يعبر النهر فإن الجزيرة رقم (10) سوف تظل في مأمن رغم استيلائه على مدينة مدريد الجديدة لوجود طريقي إمداد وهروب مفتوحين (هما نهر الميسيسبي وطريق تبتونفيل). ومن ناحية أخرى فإن الأدميرال "فوت" رأى خطورة دفع سفنه الحربية المدرعة وسفن النقل، ضمن مدى أسلحة المتمردين الثقيلة المنطلقة من القاعدة. إذ إن أسطوله كان قد تعرض إلى ضربة موجعة في قاعدة "دونيلسون" في شهر فبراير من قبل، وأصيب الجنرال نفسه بجراح خطيرة. وربما سيطرت تلك المحنة على تفكيره وأضعفت عزيمته، فلذلك لجأ إلى خطة تقضي بقصف تحصينات الجزيرة رقم (10) من مدى بعيد، ولكن هذا القصف لم يكن فعّالاً لدرجة أن أحد ضباط الجيش الاتحادي وصفه ساخراً بأنه "قصف بعيد المدى لولاية تنيسي".
حاول الجيش الاتحادي شتى السبل للوصول إلى الجزيرة رقم (10)، لكن تلك المحاولات لم تُجْدِ فتيلاً على الموقف التكتيكي. وضاق الجنرال بوب ذرعاً بالقصف العقيم الذي ينفذه الأدميرال فوت، فقرر ابتكار خطة يتجنب بها تلك الجزيرة الحصينة. وتقوم تلك الخطة على حفر قناة عبر الحقول المغمورة بالمياه شمال منحنى النهر الذي على شكل "s" لتصل المنطقة الواقعة بين الجزتين رقم (8) و (9) بمدينة مدريد الجديدة، وبذلك يتمكن من استخدام جغرافية تعرجات النهر لتجاوز الجزيرة بناقلات الجنود ذات التدريع الخفيف في عبور النهر. وهكذا تمكن (600) جندي من الانطلاق عبر قناة عرضها (50) قدماً وطولها (8) أميال خلال ثلاثة أسابيع حتى وصلوا أخيراً في يوم (4) أبريل إلى سد الجزيرة رقم (9)، واجتازت ناقلات الجنود مياه فيضانات تيار نهر الميسيسبي الجارف بأمان إلى مدينة مدريد الجديدة، بالتزامن مع هذا التقدم تمكنت سفينتان حربيتان مدرعتان من سفن الجيش الاتحادي من إكمال تقدم ليلي تحت نيران الأسلحة المنطلقة من الجزيرة رقم (10). وبذلك أصبح لدى الجنرال بوب وسائل لنقل جنوده عبر النهر ومدافع السفينتين "كاروندليت" و "بتسبيرغ" لإسكات نيران المدفعية المنطلقة من الشاطيء وتوافر نيران الحماية أثناء العبور. وازدادت وتيرة العمل لاحتلال الجزيرة رقم (10) من المؤخرة، ففي يوم 6 أبريل سحقت السفينتان الحربيتان المدرعتان بطاريات مدفعية المتمردين المتمركزة مقابل "بوينت بلنرانت"، وشنتا هجوماً على الإنزال الذي كان ينفذه "واتسون" في صبيحة يوم (7) أبريل، ومن ثم قامتا بتوفير الحماية لعبور جيش الجنرال بوب على الضفة الشرقية من النهر. وسرعان ما أحكمت قوات الجنرال بوب إغلاق منافذ الهروب باحتلال طريق "تبيبتونفيل"، والبرزخ الذي بين نهر الميسيسبي وبحيرة "ريلفوت". وعند الظهر كانت الجزيرة رقم (10) قد عزلت تماماً، واستسلم عديد من جنودها قبل سعت (2100). وعندما أطل صباح يوم (8) أبريل استسلم آخر مقاتلي المتمردين لجنود الجنرال بوب، بينما كان جيش الجنرال غرانت يستجمع أنفاسه بعد معركة "شيلو". وهكذا حقق الجيش الاتحادي نصراً مؤزراً بحسن استخدامه لجغرافية المنطقة حتى أجبر المتمردين على الاستسلام. ووقع بين أيدي الجيش الاتحادي أكثر من (500) أسير من بينهم ثلاثة جنرالات، وسحقت سفن المتمردين في الجناح الغربي عن بكرة أبيها مقابل خسارة حفنة من جنود وبحارة الجيش الاتحادي.
 خاتمة
لاشك أن للعوامل الجغرافية تأثير على معركة الجزيرة رقم (10). فقد كانت الأرض المغمورة بالمياه وتعرجات نهر الميسيسبي بمثابة موقع حصين للمتمردين ضد الهجوم البري، فضلاً عن أن مجرى النهر عند ذلك الموقع عريض وترتفع مياهه إلى أعلى مستوياتها في ذلك الفصل من العام - ويستلزم الأمر استخدام ناقلات جنود لنقل مشاة جيش الجنرال بوب عبر نهر الميسيسبي، ولكن تلك الناقلات كانت على الجانب الآخر من منحنى النهر. وقد انطوت خطة الجيش الاتحادي على خدعة ماكرة باستخدام ذلك المنحنى للاستيلاء على القاعدة. إذ ظلت الآليات ذات التدريع الخفيف شمال الجزيرة منفصلة عن مدينة مدريد الجديدة التي لا تبعد سوى (6) أميال مستقيمة والتي يوجد بها الجنود الذين يُراد نقلهم. ونظراً لأن المستنقعات في الأراضي المنخفضة ومجرى النهر كانت تسد الطريق، فلم يتمكن قادة قوات المشاة في الجيش الاتحادي من التقدم، وإنما كانوا فقط يقضمون بعض المواقع في محيط القاعدة الحصينة. وكان هناك طريق اقتراب وحيد هو طريق "تبتونفيل"، وكان ذلك الطريق هو مربط الفرس، إذ ما إن تمكن جنود الجنرال بوب من اتخاذ موطيء قدم على ضفتي نهر ميسوري حتى انقلبت هذه الخاصية الجغرافية في صالح الجيش الاتحادي، وأصبح طريق الاقتراب الوحيد بمثابة مصيدة للمتمردين.

ولاشك أن نهر ميسوري كان هو أهم العوامل الجغرافية تأثيراً على مجريات المعركة، إذ وقف الجيش الاتحادي في حيرة تكتيكية أمام منحنى النهر، كما شكل موقع القاعدة أسفل ذلك المنعطف مشكلة أخرى لأن تيار النهر الرئيس سوف يجرف سفن الجنرال فوت الثقيلة تحت نيران البطاريات المتمركزة على ذلك النهر مباشرة - وتزداد هذه المشكلة تعقيداً بفيضان النهر بأعلى معدلاته خلال السنوات القليلة الماضية، فيضطر ذلك التيار الجارف الناجم عن غزارة المياه سفن الجيش الاتحادي إلى الرسو على الشاطيء لأن محركاتها ليست بالقوة التي تمكنها من المحافظة على مواقعها في النهر. وكانت المشكلة العويصة التي تواجه الجنرال "فوت" هي اتجاه تدفق المياه، حيث كان يواجه تياراً جارفاً يتدفق نحو الجنوب الأمر الذي يجرف سفنه التي تتعطل نحو الجنوب لتقع في قبضة المتمردين فساهم ذلك - أكثر من أي عامل آخر - إلى اعتماده على القصف بعيد المدى على علاته.

وساهمت مياه الفيضانات والمستنقعات على ضفتي النهر في حماية قوات المتمردين بشكل رئيس. فكان شن هجوم بري من جانب النهر المواجه لولاية تنيسي أمراً مستبعداً لتعذر تجاوز المستنقعات، ومما زاد الطين بلة أن بحيرة "رييلفوت" التي تصب في نهر الميسيسبي لا تبعد سوى (14) ميلاً جنوباً، ولم تتمكن القوات من تجاوزها بسهولة نظراً لوجود السدود الكثيفة من الأعشاب وأشجار الصنوبر. كما ذهبت مساعي الجنرال بوب لاحتلال منحنى النهر المقابل للجزيرة رقم (10) أدراج الرياح بسبب الأرض المغمورة بمياه الفيضان. بيد أن تلك الحماية التي وفرتها الأرض المغمورة بالمياه بجانب النهر وطريق الاقتراب الوحيد سرعان ما انقلبت وبالاً على المتمردين. فبعد الاستيلاء على مدينة مدريد الجديدة في يوم (14) مارس تمركزت مدفعية الجنرال بوب على نقطة "رديلز" وعلى امتداد السد الطبيعي. وقد اكتسب ذلك أهمية لسببين: أولهما أن بطاريات مدفعية الجيش الاتحادي التي على تلك النقطة سيطرت على النهر أسفل الجزيرة رقم (10) مما قطع خطوط إمداد المتمردين عن طريق النهر وأجبرهم على سحب أسطولهم الصغير المؤلف من سفن حربية من منحنى النهر. وثانيهما: أن تلك البطاريات سيطرت على الأرض المؤدية إلى طريق تبتونفيل جنوباً. ونظراً لوجود الفيضانات على الأرض الواقعة جنوب طريق "تبتونفيل" فإن طريق الحركة الوحيد هو الطريق المرتفع أو على امتداد السد الطبيعي وكلاهما يقع ضمن مدى مدفعية الجيش الاتحادي.

لقد كانت معركة الجزيرة (10) بمثابة نصر مؤزر للجيش الاتحادي، وفتحت نهر الميسيسبي للملاحة حتى مدينة ممفيس في ولاية تنيسي، وأحبطت خطط المتمردين الرامية إلى الدفاع على امتداد ذلك النهر. وتعد تلك المعركة خير مثال لتأثير الأوضاع العسكرية على العمليات. كما تبين براعة القادة في استخدام التضاريس لتحقيق نصر بعيد المنال، حيث تمكنت قوات الجيش الاتحادي من التغلب على قاعدة حصينة تطوقها أرض مرتفعة وأخرى مغمورة بمياه الفيضانات وتتمركز على امتداد نهر عريض جداً ويجرى بتيار جارف. وقد أسفر هذا النجاح الباهر عن أسر كافة جنود المتمردين وعدد كبير من الضباط وجمع كميات كبيرة من الأسلحة الثقيلة والذخائر مقابل خسارة حفنة من جنود الجيش الاتحادي. كما شهدت المعركة براعة في تشييد قناة لتجاوز نيران أسلحة المتمردين الثقيلة المنطلقة نحو الجزيرة رقم (10). ومن سخرية الأقدار أن هذه المعركة المهمة قد ظلت طياً منسياً لايعلم بها سوى القليل من الناس. وربما يكون القتال الدموي في "شيلو" قد ألقى بظلاله على تلك المعركة، حيث أثار ذلك القتال جدلاً واسعاً في صحافة أمريكا الشمالية وحظى بنصيب الأسد في عناوينها الرئيسة. ورغم الغموض الذي اكتنف معركة الجزيرة رقم (10) فإنها سوف تظل هي الاشتباك الرئيس الأول على نهر الميسيسبي ونموذجاً لعدد من المعارك في المستقبل. وبالفعل نفضت قوات الجيش الاتحادي الغبار عن تلك المعركة المنسية عندما واجهت موقفاً مماثلاً عند منحنى نهر الميسيسبي المقابل لمدينة "فكسبيرغ" وحاولت نقل بطارياتها النهرية بالطريقة نفسها التي استخدمتها قبل عام



  تنبيه من إدارة الساحات      
المعلومات و الآراء المقدمة في هذه المشاركة تعبر عن رأي السيد الليث الجسور وحده وليست بالضرورة أن تكون تعبيراً لرأي أي شخص أخر

للجغرافيا العسكرية دوراً فعالاً في كل أنواع الحروب البرية، والبحرية، والجوية، توضحها الدراسة التالية.

1. الجغرافيا العسكرية والحرب البرية
غالباً ما يكون الهدف من الحرب البرية الضغط المباشر على أفراد الشعب المعادي، بتدمير وسائل المقاومة لديه، والسيطرة على مراكز القوى التي يعتمد عليها. بمعنى أن الهدف الرئيسي من الحرب البرية تحطيم جيش العدو عن طريق تدمير مراكز الصناعات الحربية، والمدنية، والمراكز التجارية، باعتبار أنها تحد من قدرة العدو على القتال وإشعاره بأنه غير قادر على إحراز أي نصر عسكري وكشفه أمام شعبه بأنه غير قادر على الحفاظ على أراضيه مما يؤدي إلى انهيار الروح المعنوية لدى الشعب واستسلامه أمام عدوه.
وتحدد الجغرافيا العسكرية المحاور الرئيسية على الجبهة، التي تتوزع عليها القوات، بشن هجوم مباشر على القوات المعادية بعد تحديد مناطق الضعف فيه، حتى تتمكن من الدخول إلى أراضيه، أو التسلل من حوله للوصول خلف صفوفه لقطع طرق النقل والمواصلات، وبالتالي شل حركات الإمداد والتموين إليه، وتراعي الجغرافيا العسكرية في ذلك العوائق الطبيعية مثل التضاريس والمناخ، وتشترك مع الأفرع العسكرية في تجهيز الإمكانيات اللازمة للتغلب عليها. فمثلاً في حرب أكتوبر 1973، استطاعت القوات المسلحة المصرية أن تعبر العائق المائي المتمثل في قناة السويس من ضفتها الغربية إلى الضفة الشرقية بالقوارب المطاطية، لمفاجأة العدو، واستغلال مراكز الضعف في جبهته، ثم مُدَّت بالآليات والمركبات بعد بناء كوبري سابق التجهيز. أي أنه مجرد أن توضع الخطط الإستراتيجية، ويُحدد الهدف، تنطلق القوات نحو الهدف بعد دراسة وسائل الحركة والطرق، التي تتبعها الجيوش مع وضع جدول زمني للتقدم، ومراعاة العوائق التي قد تحد من كفاءة الحركة.

2. الجغرافيا العسكرية والحرب الجوية
تطورت أهداف الجغرافيا الإستراتيجية للحرب الجوية تطوراً كبيراً وسريعاً مع تطور التكنولوجيا الحديثة، فلم تعد وظيفة السلاح الجوي قاصرة على نقل الجنود، والسلاح، والذخيرة، والمؤن، لتعزيز الهجوم العسكري، بل تطور دورها، وأصبحت تسهم بدور فعال وبخاصة خلف خطوط العدو وفي أعماق أراضيه، وذلك بتحطيم وتدمير كل ما يمكن أن يقلل من عزيمة الجيش المعادي وإرباك خطوطه، وهذا ما حدث في حرب أكتوبر 1973، حيث بدأتها مصر بالسلاح الجوي، ونجحت في تحطيم معنويات الجيش الإسرائيلي وحدت من قدرته وعزيمته على القتال.
كما تهدف الجغرافيا العسكرية إلى التحكم في الفراغ الجوي وتدمير الطائرات المعادية وحرمانها من استخدامه، وبالتالي يتمكن السلاح الجوي من السيطرة على قوات العدو البرية والبحرية، ويقوم بضربها وتحطيم الصواريخ المضادة، وبذلك يقضي على المقاومة الأرضية ضد الطائرات، وعليه يقوم بحماية، ومساعدة قواته البرية المتقدمة، وإرشادها إلى مناطق الضعف في صفوف العدو للتركيز عليها.
تهتم الجغرافيا العسكرية بدراسة الظروف المناخية لطبقات الجو، ومنها اتضح وجود تيارات هوائية شديدة السرعة، ويُطلق عليها التيارات النفاثة Jet Streams. وأول من أكد على وجود هذه التيارات رجال السلاح الجوي الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية أثناء عمليات هجومهم الجوي فوق الجزر اليابانية على ارتفاعات 30 ألف قدم، وقُدرت سرعة هذه التيارات حينئذ بين 200 إلى 300 ميل/ ساعة. وأصبح لهذه التيارات أهمية كبيرة في الطيران خاصة بعد استخدام الطائرات النفاثة التي تُحلق على ارتفاعات شاهقة. إذ يمكن أن تستفيد منها إذا كانت تسير في نفس اتجاها. أو تتجنبها إذ كانت تسير في اتجاه مضاد لها. كما لا يستغني السلاح الجوي والملاحة الجوية عن بيانات الطقس، وذلك تأميناً لسلامة الطلعات الجوية وحركات الطيران. ولا يتوقف دور الجغرافيا العسكرية على دراسة ظروف الطقس فحسب، بل تتعداه إلى اختيار مواقع المطارات بالأماكن، التي تقع في سهول فسيحة حتى لا تُشكل عقبة أمام الطيران من جهة، والتي يقل تعرضها لحدوث الضباب بكثرة ولا تتأثر بالزوابع والأعاصير من جهة أخرى.

3. الجغرافيا العسكرية والحرب البحرية
تقوم الجغرافيا العسكرية للحرب البحرية بتحديد المسارات البحرية والاستفادة من التيارات البحرية إذا كان الإبحار في اتجاها، أو تجنبها إذا كان خط السير في اتجاه مضاد لها، كما تهتم بدراسة العوائق، التي تؤثر على المناورات البحرية وبخاصة ما يتعلق بالظروف المناخية مثل الأعاصير ـ وما يتبعها من ارتفاع الأمواج أو ما يعرف بهياج البحر ـ والضباب وأثره في حجب الرؤية، كما تهتم بتحديد أماكن الشعاب المرجانية وجبال الجليد حتى تتجنبها السفن أثناء الملاحة البحرية، إضافة إلى أنها تُحدد أعماق البحار والمحيطات على خرائط تُعرف بالخرائط البحرية Marine Maps، كما أنها تدرس المد والجزر وحركات الأمواج واتجاهاتها.
وتهدف الجغرافيا العسكرية للحرب البحرية إلى مهاجمة السواحل وإنزال القوات عليها لتقوم بدورها في تدمير مراكز العدو الإستراتيجية والحيوية، أو في الاستيلاء على مصادر الثروة الموجودة مثل ما كان يحدث في الحروب الاستعمارية، كما تهدف إلى حماية سواحل الوطن من الهجوم، كما هو الحال بالنسبة للبحرية الأمريكية التي تعمل على درء الخطر عن القارة الأمريكية بعيداً عن سواحلها، بحيث يكون الدمار على أرضٍ غير أراضيها. فوزعت الأساطيل الحربية على المحيط الأطلسي، والهادي، والهندي، والبحر المتوسط، والبحر الكاريبي.
وتهتم الجغرافيا الطبيعية بدراسة الأغلفة الأربعة للكرة الأرضية، (الغلاف الجوي، والغلاف المائي، والغلاف الصخري، والغلاف الحيوي). أمّا الجغرافيا البشرية فتتناول دراسة الظاهرات البشرية على سطح الأرض ومدى التأثير المتبادل بينهما وبين بيئاتها الطبيعية والصور الاجتماعية الناجمة عن تفاعل الإنسان مع بيئته المحلية مثل توزيع السكان وأنماط العمران، كما تشمل دراسة النشاط البشري ومؤثراته وتوزيعاته، وكذلك التركيب السياسي للدولة بوصفه ظاهرة جغرافية، وتعرف كل الأفرع سابقة الذكر بالجغرافيا الموضوعية Topical Geography، أو الجغرافيا الأصولية Systematic Geography، وتركز على الموضوعات أكثر من تركيزها على الأماكن، أو على الظاهرات الجغرافية أكثر من المساحة.

وإضافة إلى ما سبق، هناك فروع جغرافية تهدف إلى الربط بين الظاهرات الجغرافية المختلفة لإبراز العلاقة التبادلية بين الإنسان والبيئة، مثل الجغرافيا الإقليمية، والجغرافيا الطبية، وجغرافيا المياه.

عوامل الطقس الحرجة في العمليات العسكرية

يتشابه المناخ climate والطقس weather في أنهما يعبران عن حالة الجو ، لكنهما يختلفان في الفترة التي يغطيانها ، فالمناخ هو معدل حالة الجو لمكان أو إقليم خلال الفصول والسنة ، وذلك خلال فترة زمنية طويلة يقترحها البعض 35 سنة لإمكانية تعاقب الأحوال العادية والشاذة فيها . أما الطقس فهو حالة الغلاف الجوي للأرض في الوقت الراهن ، وكذلك المتوقع مستقبلا من حيث درجة الحرارة والضغط الجوي والرياح وغير ذلك.


ولحالة الجو الراهنة أو المتوقعة الأثر البالغ والدور الخطير على العمليات ، وذلك منذ أقدم العصور وحتى الوقت الحالي . ويسعى القادة منذ القدم للاستفادة من حالة الجو لصالح قواتهم قدر الإمكان ، ومحاولة استغلال فترات تحسن الحالة الجوية بما يسمح بتوجيه ضربة شديدة للعدو ، أو القيام بعملية عسكرية هائلة ، ويعتبر إنزال الحلفاء على ساحل النورماندي الفرنسي في الحرب العالمية الثانية مثلا واقعيا على ذلك ، حيث تم الإنزال بنجاح في الوقت الذي لم تتوقعه القيادة الألمانية بسبب سوء الأحوال الجوية آنذاك .

وتعمل القيادات في مختلف جيوش العالم على توفير المعلومات العلمية المحدثة الخاصة بالطقس والمناخ ووضعها في غرف العمليات وإدامتها ليسترشد بها عند وضع الخطط ، كما تسعى القوات المسلحة للاستفادة من تقنيات العصر في الملابس العسكرية ، والمعدات والآليات ، لتكون الأفضل عند مواجهة عوامل الأحوال الجوية ، ويتوقف هذا الأمر على الإمكانيات المادية والعلمية لكل دولة .

وتهدف السطور التالية لإلقاء بعض الضوء على عوامل الطقس الحرجة ( الخطيرة ) critical weather factors على العمليات العسكرية :

الرؤية المتدنية low visibility :
الرؤية هي المسافة الأفقية التي يمكن منها مشاهدة أهداف أو أجسام معينة وتمييزها بوضوح ، فهي درجة شفافية الهواء بالنسبة لبصر الإنسان . ومن الظواهر والعناصر الجوية المؤثرة على مدى الرؤية : الضباب والضباب الرقيق ( الشابورة ) والسديم (العجاج) والمطر والغبار . ومدى الرؤية هو المسافة الأفقية التي يمكن عندها مشاهدة جسم كبير داكن اللون مقابل للأفق في وضح النهار. ويستعمل جهاز لتحديد مدى الرؤية يدعى ترانسمسوميتر transmissometer.

قد يكون في تدني مدى الرؤية لأقل من 3 كيلومترات فائدة للقوات الصديقة والمعادية . ويمكن أن يخفي مركز الثقل center of gravity والمناورة للقوات التي تقوم بالهجوم ، وقد يزيد من فرص تحقيق المفاجأة . أما سلبيات تدني مدى الرؤية فهي إعاقة القيادة والسيطرة Command and Control (C2) . كما ُينقص تدني مدى الرؤية من فعالية الاستطلاع والمراقبة Reconnaissance and Surveillance (R&S) وكذلك منطقة الهدف Target Area (TA) خلال الدفاع على وجه الخصوص .

الرياح السطحية surface winds :
تعرف الرياح السطحية بأنها الرياح التي ُتقاس على سطح محطة الأرصاد الجوية ، في حين أن الرياح بتعريفها الواسع هي الحركة الأفقية للهواء فوق سطح الأرض أو في جوّها .


يمكن للرياح القوية أن تقلل من فعالية القوات المتحركة بوجه الرياح ، وذلك بإثارتها للغبار dust والدخان والرمل والمطر أو الثلج على هذه القوات ، في حين تتمتع القوات المتحركة مع اتجاه الرياح القوية بمدى رؤية أفضل ، وعلى ذلك بإمكانها التحرك بسرعة وسهولة أكثر . كما تحد الرياح القوية من الطيران والعمليات المحمولة جواً ( الطائرات العمودية بشكل أساسي ) . ومن الآثار السلبية للرياح التي تزيد سرعتها على 35 عقدة / ساعة ( العقدة = ميل بحري أي 1.85 كم ) :
- التسبب بإصابات بدنية في الأفراد .
- تدمير وإلحاق أضرار بالمواد والمنشئات .
- خلق ارتدادات رادار غير حقيقية .
- خفض مدى الرؤية بإثارتها للرمال .

التساقط ( الهطول ) precipitation :
هو ما ينتج عن تكاثف بخار الماء في الجو ، والذي يتجمع في الغيوم ، ويسقط على الأرض بشكل مطر أو ثلج أو بَرَد وما شابه .

يؤثر التساقط على صلاحية التربة للسير trafficability أي على تحمل حركة الآليات دون استخدام الطرق المعبدة والممهدة على وجه الخصوص ، كما يؤثر على مدى الرؤية ، وفعالية الأفراد ، وعلى كثير من المعدات المتنوعة من مجنزرة trackedومدولبة wheeled . ويؤدي المطر الغزير إلى جعل سطح الأرض غير المعبد ، والأرض منخفضة المنسوب ، والمناطق خارج الطرق ، غير قابلة للعبور أو المرور . ويؤدي تساقط المطر والثلج إلى خفض شديد لفعالية وكفاءة الأفراد بسبب تقليل مدى الرؤية ، والتسبب بإزعاج الأفراد وإحساسهم بعدم الارتياح ، وبزيادة إرهاقهم وشعورهم بالتعب ، والتسبب بمشكلات بدنية ونفسية لهم .

ومن الآثار الناجمة عن التساقط :
- يتأثر معدل إسقاط القوات ، واكتساب الهدف target acquisition في العمليات المحمولة جواً ، بأي نوع تساقط ، وبأية كثافة .
- تتجمد الريش الدّوارة ( المراوح ) rotor blades في الطائرة ، وتتعرض سلامة الطائرة للخطر عند حدوث أي تجمد freezing ، وذلك في عمليات الطيران .
- تتناقص فعالية جميع الرادارات ( أكثر من 10 جيجا هيرتز ) وتتأثر جميع مستشعرات الأشعة دون الحمراء infrared sensors في عمليات الدفاع الجوي ، إن زاد معدل التساقط السائل على 1.27 سم / ساعة .
- تتأثر الحركة على الشاطئ في العمليات البرمائية ، إن زاد معدل التساقط السائل على 0.25 سم / ساعة .
- تتناقص فعالية الرادار ، ومستشعرات الصوت audio sensors في عمليات الحرب الإلكترونية والاستخبارات ، إن زاد معدل التساقط السائل على 0.25 سم / ساعة .
- تتأثر القدرة على الحركة وصلاحية التربة للسير ، ويتأثر تخزين المواد بشكل عام ، إن زادت كمية التساقط السائل على 5 سم خلال مدة تغسل 12 ساعة .
- يتأثر انتخاب المواقع واختيارها ، ويتأثر منسوب الأنهار ، والجريان المائي ويحدث الفيضان ، وتتأثر أعمال إعادة التزويد resupply وأعمال الهدم والتدمير demolitions ، وعبور الأنهار ، ومدى الرؤية ، وغير ذلك في عمليات المناورة الأرضية ground maneuver operations إن زاد معدل التساقط السائل على 0.25 سم / ساعة ، أو زادت كمية التساقط السائل على 5 سم خلال مدة 12 ساعة .
- تنظف بالغسل العناصر المستعملة في الحرب الكيماوية والجرثومية ، ويتبدد الدخان المستعمل ، بأي نوع تساقط ، وبأية كثافة.
- يترتب على حدوث أي تجمد إلحاق الضرر بمعدات وهوائيات antennas سلاح الإشارة ( اللاسلكي ) كما يقل تحمّل الهوائيات لتأثير الرياح عليها .

غطاء الغيوم : cloud cover
هو مقدار الغيوم في سماء منطقة معينة ، ويُحَدَد عادة بالأثمان ، وهناك مقياس آخر يعتمد الأعشار . ويؤثر نوع الغيوم ومقدار التغيّم وارتفاع قواعد الغيوم وقممها ، وسقف الغيمة ceiling هو المسافة بين أسفل الغيمة وسطح الأرض تحتها مباشرة ، كل ذلك يؤثر على عمليات الطيران aviation operations ومن ذلك :


- يتطلب الإسناد الجوي القريب Close Air Support (CAS) بطائرات الجناح الثابت سقف غيوم أقله 2500 قدم (762متر) وإن كان بالإمكان عمل الطائرات على ارتفاع دون ذلك . أما التهديد بتعريض مهام طائرات الجناح الدوار أي العمودية للخطر ، وإعادة التموين الجوي فيقع عند سقف غيوم 300 قدم (100متر) . كما يؤثر غطاء الغيوم على العمليات الأرضية ground operations ( العمليات التي يشترك فيها الجيش بشكل رئيسي ) حيث يقلل من الإضاءة الطبيعية والرؤية ، أو يعزز من تأثير الإضاءة الاصطناعية بعكسه للأشعة .

الحرارة والرطوبة humiditytemperature and :
درجة الحرارة هي درجة سخونة جسم ما ، وتقاس بالترمومتر. وتعتمد درجة حرارة منطقة ما على درجة عرض المكان ومقدار ارتفاعه عن سطح البحر، ومقدار بعده عنه وعوامل أخرى . والرطوبةهيكمية بخار الماء في الجو ، أما الرطوبة النسبيةrelative humidity فهي معدل ( يعبر عنه عادة بالنسبة المئوية) بين مقدار بخار الماء الموجود فعلا في كمية من الهواء وكمية البخار التي يمكن أن تجعل الهواء مشبعا عند درجة حرارة معينة. ويبدو أثر درجة الحرارة ونسبة الرطوبة على النحو التالي :

- لدرجة الحرارة ونسبة الرطوبة أثر مباشر على أداء الأفراد والآليات على حد سواء .

- تتسبب درجة الحرارة المفرطة بإصابات للأفراد كضربة الشمس والجفاف ، وبإصابة محركات الآليات بالتآكل والاحتكاك مما يؤدي إلى توقف المعدات عن العمل .

- تتسبب درجات الحرارة المنخفضة جدا بزيادة إصابات الطقس البارد كالتجمد وعضات الصقيع ، كما تتسبب بتعطيل أنظمة التبريد والمحركات ومن ذلك تجمد ماء أو سوائل تبريد المشعات radiators حيث يؤدي تجمد الماء في المشع إلى كسره وتمزقه وبذلك تفقد الآلية نظام تبريدها وسترتفع درجة حرارة المحرك سريعا مما يصيبه بالعطب سريعا ، كما تتناقص فاعلية مزلقات lubrications الآليات من زيوت وشحوم ، مما يؤدي في نهاية الأمر إلى زيادة المتطلبات اللوجستية إلى حد كبير . هذا وتعمل الجهات المنتجة لأنظمة تبريد المحركات وللزيوت والشحوم على تطوير منتجاتها لتلائم الأحوال الجوية في البيئات المختلفة ، ورغم ذلك تبقى حدود صلاحية هذه الأنظمة والمواد قائمة .


- تؤثر زيادة نسبة الرطوبة إلى أكثر من 35 % في انتخاب سلاح الهندسة للمواقع ، سواء بما يتعلق بالمعدات أو الأفراد ، حيث تؤثر الرطوبة المرتفعة على سلامة المعدات ، ودقة أداء الأجهزة ، وكذلك راحة الأفراد .

- تؤثر الرطوبة المرتفعة جدا في زيادة فعالية الأسلحة الجرثومية وزيادة انتشارها ، في حين يعمل الجفاف عكس ذلك .

- تؤثر الرطوبة بوجه عام والمرتفعة بوجه خاص بتلف الأدوية والعقاقير الطبية ، والتي يجب حفظها في الأماكن المظلمة والجافة ، ولا تزيد درجة حرارتها على 20 درجة مئوية .

الضغط الجوي atmospheric pressure :
يعطي علم الأرصاد الجوية وخبراء الطقس أهمية كبيرة للضغط الجوي سواء على سطح الأرض أو على ارتفاعات متفاوتة منه . ويتأثر الفرد وأنشطته المختلفة باختلاف الضغط ، كما تتأثر بعض المعدات بذلك ، ومن ذلك إختلاف السيطرة على الضغط في طائرات الجناح الدوار عن طائرات الجناح الثابت من طائرات مقاتلة وطائرات نقل . إذ لا توجد سيطرة على الضغط الجوي في الأولى ، أما الثانية فيتوقف الأمر على نوع الطائرة ومقدار الارتفاعات التي ستحلق فيها ، وإن كانت بشكل عام ذات قدرات على ضبط الضغط والسيطرة عليه داخلها ، حيث يحتاج فيها الطاقم إلى أجهزة خاصة ، ومستلزمات لتنفسه . ومن ذلك تطلب استخدام طواقم الطائرات المقاتلة وما شابهها بزة خاصة ذات مزايا وخصائص معينة تحول دون نقص دم الفرد في منطقة الرأس وأعلى جسمه ، وعدم تجمع دمه في أسفل جسمه ، هذا إضافة لاستعمال قناع يزوده بالأكسجين . وهذا بسبب طبيعة عمل الطائرة المقاتلة من حركة ومناورة والتنقل من تحليق شاهق ومنخفض والعكس خلال فترة زمنية قصيرة .

الظواهر الجوية الكهربائية وآثارها العسكرية

الظواهر الجوية الكهربائية هي ظواهر كهربائية تحدث في الجو ، وتأخذ شكلا مرئيا أو مسموعا ، كما في البرق والرعد والشفق القطبي . يحتوي الجو على ساحات كهربائية قوية ، إذ تكون الأرض ذات شحنة كهربائية موجبة ، وتكون قواعد الغيوم ذات شحنة كهربائية سالبة ، ويقدّر فرق الجهد الكهربائي الوسطي في الجو 100 فولت في المتر المربع الواحد ، ويزداد هذا الفرق ليصل إلى أكثر من 1000 فولت / م2 عند حدوث العواصف والأعاصير . ويحسن التعرف على أهم هذه الظواهر .

العواصف الكهربائية electrical storms :
تتألف العواصف الكهربائية من برق ورعد ، وتترافق في شكلها النموذجي بتساقط مطر غزير وما نحوه . وتتشكل كل عاصفة في غيمة ( سحابة ) مزن ركامي ( ركام مزني ) cumulonium المعروفة اختصارا Cb ، ويتراوح قطرها بين ميل واحد ( 1.8 كم ) و 5 أميال ( 8 كم ) وبارتفاع نحو 25,000 قدم ( 7,600متر ) .

البرق lightning :
تفريغ كهربائي ضمن الغيوم نفسها ، أو من الغيوم إلى الأرض ، وهو يسبق الرعد ، وإن حدث التفريغ بين قاعدة الغيمة وسطح الأرض يسمى صاعقة . وتعتبر غيوم المزن الركامي سابقة الذكر هي الغيوم الملائمة لحدوث البرق والصواعق . ويتحرك البرق بسرعة 300,000 كم / ثانية (186,000 ميل / ث ) لذلك يشاهد فور حدوثه ، وينتقل الصوت بسرعة كم واحد / 3 ثواني ( ميل واحد / 5 ثواني ) مما يوفر طريقة لمعرفة بُعد حدوث البرق ، إذ يمكن عد الثواني فور رؤية ومضة البرق وحتى سماع صوت الرعد ، وبقسمة عدد الثواني على 3 يكون الناتج هو مقدار بعد العاصفة بالكيلومترات. ويمكن مشاهدة البرق ليلا من بعد 80 كيلومترا ( 50 ميل) أو أكثر خاصة على المحيط والبحر .

الصاعقة thunderbolt :
تفريغ كهربائي بين قاعدة غيمة رعدية ( مزن ركامي ) ذات شحنة كهربائية سالبة وسطح الأرض ذي الشحنة الكهربائية الموجبة . ومن الغريب أن عرض الصاعقة أقل من 2.5 سنتيمتر في حين بصل طولها نحو 50 كيلومترا ، وتؤدي عند حدوثها إلى رفع درجة حرارة الجو الذي تخترقه إلى أكثر من 30,000 درجة مئوية ، مما يؤدي إلى تمدد الغاز بشكل هائل محدثا صوتا هائلا مدويا يتردد بين الغيوم المجاورة ، ليتحول إلى رعد . وتختلف الصاعقة عن البرق كما سبق ذكره في أن حدوث التفريغ الكهربائي في الصاعقة يكون على الأرض .

الرعد thunder :
صوت شديد ينتج عن تصادم جبهتان هوائيتان عقب وميض البرق ، فهو صوت التفريغ الكهربائي الناتج عن البرق . ويمكن سماع الرعد عادة مسافة كيلومترات ( 5 أميال ) .

العاصفة الرعدية thunderstorm :
ظاهرة جوية كهربائية ، إذ أنها تفريغ كهربائي فجائي يظهر بومضة ضوئية هائلة ( البرق ) وصوت شديد حاد ( الرعد ) وبسقوط زخات شديدة من المطر ، ويصاحب العاصفة الرعدية حدوث البَرَد . وتحدث العواصف الرعدية خلال أقل من ساعة ، كما تحدث عادة في الربيع والصيف . وهي وإن كانت مشوقة ومسلية عند مشاهدتها إلا أنها قاتلة إن تعرض الإنسان لصواعقها . ويمكن لأي غيمة رعدية كبيرة إطلاق بلايين الفولتات من الطاقة الكهربائية ، وهي من القدرة بما يكفي لإشعال حريق كبير . ويمكن القول أن عاصفة رعدية واحدة اعتيادية يمكنها أن تطلق ما يعادل الطاقة التي يطلقها استهلاك 70000 طن من الفحم الحجري .

الآثار العسكرية
قد لا يكون من الأمور الهامة بالنسبة للعسكريين معرفة كيفية حدوث العواصف الكهربائية بالقدر الذي يعنيهم معرفة آثارها وكيفية التعامل معها ومع آثارها ، ويمكن أن تبدو بعض هذه الآثار كما يلي :

* عمليات الدفاع الجوي :
تؤثر العواصف الكهربائية على فاعلية المنظومات الإلكترونية . وتتأثر أنظمة الاتصالات والرادار ، وكما تؤثر على خزن وحماية منظومات الصواريخ .


* عمليات المدفعية :
تؤثر العواصف الكهربائية والرعد بالحدّ من التعامل مع نقل وتوزيع ومناولة الذخائر .

* عمليات الطيران والهجوم الجوي :
تؤثر العواصف الكهربائية والرعد في كونها تشكل خطرا على عمليات الطيران على في داخل الطائرة وخارجها ، ويعتبر أي حدوث للعواصف الكهربائية والبرق من أسباب تأثر أداء الطائرات ، ويحد من تزويدها بالوقود كونه مادة قابلة بل سريعة الاشتعال ومقدار ما يعول عليه من أنظمة اتصالات ، وكذلك عملية إعادة تسليح الطائرات ، ولأنواع بعينها من الذخائر ، إضافة لأمور السلامة بالنسبة للأفراد .

* معدات الاتصالات والإلكترونيات :
تؤثر العواصف الكهربائية والرعد بما تسببه من تداخل مع أجهزة اللاسلكي ( الراديو ) والاتصالات السلكية ، وأكثر ما يكون التداخل في شارات عالية التردد HF إن وقعت ضمن 4.8 كم ( 3 أميال ) كما قد تعطل التوافق والمزامنة لبيانات وسائط الاتصال . كما قد يلحق تلفا أو عطبا في بعض الأجهزة .

* عمليات الاستخبارات :
تؤثر العواصف الكهربائية والرعد على فاعلية المنظومات الإلكترونية ، كما تؤثر على البث عبر اللاسلكي ( الراديو ) والاتصالات السلكية . كما يؤدي أي حدوث للعواصف الكهربائية والبرق في مدى 4.8 كم ( 3 أميال ) إلى تعرض سلامة الأفراد ومعداتهم للخطر ، وتنطلق إنذارات غير صحيحة ، وتعطى قراءات غير صحيحة أيضا لبعض الأجهزة .

* العمليات اللوجستية :
تعرض العواصف الكهربائية والرعد للخطر المخزون والتعامل معه من نقل للذخائر والوقود .

* عمليات الحرب النفسية :
تنقص العواصف الكهربائية والرعد من مسموعية ( قابلية السمع ) مكبرات الصوت . كما تؤدي للتداخل مع بث اللاسلكي .

* عمليات القوات الخاصة :
يؤدي حدوث العواصف الكهربائية والبرق ضمن 5 كم ( 3.1 ميل ) إلى تناقص قوة الاتصالات ، وإلى تعرض سلامة الأفراد ومعداتهم للخطر .

* الأفراد :
ُيرجع العلماء التأثيرات الكهربائية الجوية على جسم الإنسان إلى زيادة دخول الشوارد الكهربائية إلى جسمه ، ومشاركتها في العمليات الإستقلابية التي تحدث فيه . ومن الجدير بالذكر أن لكل الشحنات الموجبة والسالبة تأثيراتها الخاصة ، فالشوارد الموجبة تظهر تأثيرا سيئا على صحة الإنسان من صداع وضيق في التنفس ، وتخريش في مخاطيات الحلق والبلعوم وبحة بالصوت ، وتؤدي زيادتها في الجو إلى شعور الإنسان بالضيق والضجر، هذا إضافة لما سبق ذكره في السطور السابقة .


الصفات والمحددات العسكرية للصحراء
يحسن إيضاح المقصود بالصحراء من حيث تعريفها وأنواعها ، فقد كان للصحراء ولا يزال دورا هاما في سير العمليات البرية وإسنادها ، مما يتطلب تقنيات وتدريبات ومعدات خاصة تتلاءم وطبيعتها . وتعّرف الصحراء جغرافيا بأنها منطقة جرداء أو شبه جرداء نباتيا بسبب قلة الأمطار أو ندرتها، وعلى ذلك قد تكون الصحراء من حيث مكونات سطحها رملية أو صخرية أو غير ذلك ، ومن حيث منسوب وشكل سطحها قد تكون سهلية أو جبلية أو غير ذلك ، ومن حيث درجة الحرارة قد تكون حارة أو باردة أو معتدلة . وتعتبر الصحاري الحارة والمعتدلة أكثر شهرة من الصحاري الباردة والمتجمدة بسبب موقعها في قلب العالم ، وحقول وآبار النفط في بعض منها ، وبكونها شهدت حروبا ومعارك حاسمة وهامة منذ العصور القديمة وحتى الآن . وتهدف السطور التالية إلى التعريف بصفات ومحددات الصحاري الحارة والمعتدلة .


أما أهم عوامل تكوّن الصحاري الحارة والمعتدلة فهي :
1. بعد المنطقة عن المؤثرات البحرية والمحيطية بحيث لا تصل هذه المؤثرات من رياح رطبة وملطفة للحرارة إليها .

2. وجود جبال حاجزة تفصل بين المحيطات والبحار والمنطقة المعنية ، وبذلك تقع ضمن ما يسمى " منطقة ظل المطر " وهي منطقة لا تصلها الأمطار .

3. عدم اتجاه الرياح المحملة ببخار الماء إلى المنطقة بسبب عدم توزع مناطق الضغط الجوي التوزع المناسب ، إذ تتجه الرياح دوما من مناطق الضغط المرتفع إلى مناطق الضغط المنخفض .

الصفات :
1. تشكل الصحراء بيئة معيشية قاسية ، وغير مريحة إطلاقا ، كما يمكن أن تتسبب في مقتل القوات غير المدربة والمؤهلة للعمل فيها . وعلى القوات التي ستعمل في هذه الصحاري أن تعّد الإعداد الجسماني والنفسي لمواجهة تحديات الصحراء ، ويلاحظ أن دولا تشترط للعمل في الصحراء فحوصا طبية تصدر بموجبها شهادة لياقة طبية تفيد لياقة صاحبها للعمل . كما تقوم دول أخرى بإجراء عمليات تكيف وتأقلم لقواتها مع الظروف الصحراوية قبل إشراك هذه القوات بعمليات عسكرية واسعة وكبيرة . ومما يجدر ذكره إعلان إعادة ثمانية جنود دنمركيين يوم 12/7/2003من العراق إلى بلادهم بسبب الارتفاع الشديد في درجة الحرارة ( 46م).


2. تتشابه الصحاري الحارة أو الصحاري المعتدلة في أحوال البيئة ودرجة الحرارة ، لكنها تختلف في تركيب أرضها ونباتها ، والصحاري مناطق جافة قاحلة وتتفاوت من جبال مرتفعة إلى مساحات رملية وسباخ ملحية ، ولا توفر فرص الحياة العادية لافتقارها للمياه العذبة ، وتكون التجمعات السكانية إن وجدت متناثرة ومتباعدة وأقرب ما تكون لمصادر الماء ، كما تفتقر لطرق المواصلات بأنواعها.

3. تصل درجة الحرارة في الصحراء حد التطرف ، إذ ترتفع صيفا لتصل لما يتراوح بين 50 درجة مئوية ( 122ف) و70 م (158ف) ، أما في الشتاء فتنخفض إلى دون درجة التجمد . ويتجاوز المدى الحراري اليومي أي الفرق بين أعلى درجة حرارة وأدناها خلال 24 ساعة نحو20 درجة مئوية. علما أن درجة الحرارة التي تزيد أو تقل بنحو 5 درجات عن درجة 21 م (70 ف) تعتبر درجة حرارة غير مناسبة و غير مريحة للكثير من البشر .

4. يؤثر الجو الحار على الحركة العادية للآليات المقاتلة وعمل الأسلحة وأنظمة الاتصالات .

5. الرؤية الأفقية عادة ممتازة في الصحراء مما تسمح بمقدار جيد من الرصد observation من مراقبة منتظمة بالوسائل البصرية وغيرها لأغراض جمع المعلومات ، كما تتيح مدى جيدا لساحات الرمي fields of fire أي المناطق التي تغطيها رماية سلاح أو أسلحة بصورة مؤثرة من موضع معين .

6. يؤدي افتقار الصحراء للنبات إلى ضعف إمكانية التمويه camouflage وهي التدابير المتخذة لإخفاء الأفراد والعدة والعتاد من رصد العدو ، مما يترتب عليه اللجوء إلى التمويه بمستلزمات ومعدات اصطناعية مكلفة .

7. تكون الأمطار الساقطة في أحوال نادرة غزيرة ، وتتسبب بسيول جارفة مفاجئة ، ويرتفع منسوب الماء في الأودية الجافة عادة ، وفي ذلك أخطار شديدة على الأفراد والمعدات .

8. تصل قوة الرياح في الصحراء أحيانا إلى قوة إعصار الهاريكين أي أكثر من 115 كم / ساعة ( 64 عقدة / ساعة ) ، وتصبح الحياة تقريبا لا تطاق بسبب الغبار والرمل المتناثرين وتصعب الحركة وأعمال الصيانة بدرجة كبيرة ، وتحد من الرؤية بدرجة كبيرة جدا .

المحددات :
1. تستهلك الوحدات العسكرية العاملة في المناطق الحارة كميات أكبر من المواد القتالية ، وقطع غيار أكثر من مثيلاتها العاملة في الصحاري والمناطق المعتدلة ، وتصبح أعمال الصيانة والفحوصات والخدمة الدورية للآليات والمعدات أكثر ضرورة وأهمية .

2. التزود بالمياه هام جدا تبعا للفقر في مصادر الماء ولزيادة الاستهلاك .

3. تصعب التخفية والستر تبعا للافتقار للغطاء النباتي .

4. تعيق المساحات الرملية الواسعة والمنبسطة وتحد من الدفاع الخطي ( الطولي ) .
 5. يرجح أن تُكشف الوحدة العسكرية ويُعرف موقعها عند تحركها نتيجة الغبار الذي تثيره .
 6. إبطاء الحركة بسبب الافتقار للطرق ، ولنقاط بارزة سهلة التمييز على أرض المنطقة للملاحة ( نقاط المرجع ) ولصعوبة المسير على الدروب والمسالك .
 7. لدرجة حرارة الهواء في الأعالي تأثير سلبي على قدرة الرفع في طائرات الجناح الدوار rotary wing aircraft ( الطائرات العمودية ) وكذلك قدرة طائرات النقل غير النفاثة وكلما ارتفعت درجة حرارة الهواء المحيط بالطائرة تناقصت حمولة الطائرة .
 8. يمكن للرياح الصحراوية الشديدة أن تتسبب بهبوط الطائرات العمودية ، ولن تتمكن من الإقلاع ثانية إلا بعد تحسن حالة الجو وعودة الرياح إلى سرعتها المقبولة .
 أقوال وآراء في الجغرافيا العسكرية
  النزاعات بشتى ضروبها ظاهرة إنسانية أزلية ، تعود في تاريخها إلى الإنسان الأول ومنازعاته وقتاله مع الآخرين بما فيهم اخوته . وسعى - مما سعى فيه وإليه - إلى تنمية قدراته وأساليبه القتالية لتحقيق الفوز والنصر على الآخرين من الأعداء و الأقران ، بل ومن الحلفاء أيضا في بعض من الأحيان . وبرز من بني البشر مقاتلون عظام ، وقادة أفذاذ ، حفظت كتب التاريخ الكثير من انتصاراتهم ، و دوّنت أقوالهم و حفظتها ، وتناقلتها أجيال لاحقة من العسكريين ومن ذوي الاهتمام لما تحويه من حكمة وحنكة و سداد بالرأي ، وباتت أقوال وأفكار أولئك المقاتلون والقادة تحتل مقدمات المحاضرات والأطروحات العسكرية ، ويستشهد بها توكيدا لفكرة أو خطة ما ، وكمثال على ذلك ما تجلت به عبقرية الرسول الأعظم العسكرية ، في قوله صلى الله عليه وسلم : " الحرب خدعة " . وتسعى السطور التالية إلى عرض لبعض الآراء والأقوال في مجال الجغرافيا العسكرية ، والتي تتناول بالدراسة آثار العناصر الجغرافية - طبيعية واصطناعية – على الأنشطة العسكرية والتخطيط لها .
 ينسب عادة القول لصاحبه ، ولكن توجد أقوال لا يعرف قائلها لسبب ما ، ولكن صحة القول أو المعلومة التي يسوقها تبقي عليه ، وهنا يكون القول أعظم أهمية من قائله . ولعل القول : " المناخ climate هو ما تتوقع ، لكن الطقس weather هو ما تجد " هو حقيقة ، وتفسير ذلك أن المناخ هو مجمل حالة الجو لمنطقة ما ، وتبنى معلوماته على أساس معدلات ومتوسطات لقراءات وإحصاءات، هي حصيلة معلومات لسنوات طويلة ، وعلى ذلك إن أشارت معلومات المناخ لمنطقة ما أن صيفها معتدل ، فإن هذا لا يحول من تعرضها لأحوال حارة أو باردة في وقت ما من الصيف.
 تتعرض بعض الأقوال إلى بعض التحريف والتغيير أحيانا مع الزمن ، كما قد تختلف نتيجة الترجمة والنقل من لغة القائل إلى لغة أخرى عبر لغة ثالثة فيصيب القول تغيّر ما ، وإن كانت الفكرة واحدة ، ولكن قد يفقد القول الجمال والدقة التي أوردتها لغة القائل . ومن أمثلة اختلاف الترجمة ما قاله المفكر الصيني الشهير صن تزو Sun Tze ( سون تسي ) في كتابه الشهير " فن الحرب " قبل نحو 2500 سنة ، فقد ورد في كتاب ونترز Winters ورفاقه ما ترجمته " أولئك الذين لا يعرفون أحوال الجبال والغابات ، ومخاطر الشعاب ، والسبخات والمستنقعات ، لا يستطيعون قيادة مسير جيش "
 ، وقد ورد القول في ترجمة ربيع مفتاح للكتاب بالصيغة التالية : " وهؤلاء الذين لا تتوافر لديهم الدراية بالجبال والغابات والطرق الضيقة الخطرة والحقول والمستنقعات لا يجب عليهم قيادة الجيش "
 ، وقد وردت في ترجمة ناصر الكندي للكتاب على النحو التالي " و من لا يعرف الجبال والغابات ، الأودية والشعاب ، السبخات و المستنقعات لا يمكنه قيادة جيش " .
 ولا تقل أهمية معرفة القائل عن أهمية القول و جوهره ، فالاختلاف على اسم القائل أمر غير مستبعد ، ومن ذلك المقولة الجامعة " قتلت أرض جاهلها ، وقتل أرضا عالمها "
 إذ وردت في معجم لسان العرب لابن منظور وفي مجمع الأمثال للميداني على أنها مثل من الأمثال العربية ، في حين وردت في الكامل في التاريخ لابن الأثير على لسان خالد بن الوليد في محادثته لعمرو بن عبد المسيح أثناء حصاره له في أحد قصور الحيرة بعد معركة بادقي ، كما وردت على لسان النعمان بن مقرن موجها إياها إلى عناصر الاستطلاع في معركة نهاوند ، وفي رواية أخرى وردت في تاريخ الرسل والملوك للطبري على لسان عمرو بن أبي سلمى العنزي عنصر الاستطلاع وليس النعمان ، وعلى أي حال يرجح أن القول هو مثل عربي استشهد به من سبق ذكره .
 يصدر القول عن صاحبه عقب تجربة عاشها ، أو عمل مارسه على أرض الواقع ، فجاءت فكرته أو قوله فيما بعد ، فيوردها في كتاب يضعه أو في محاضرة يلقيها ، وسيكون مقنعا في ما يورده ، لاقتناعه برأيه وفكرته التي خرج بهما . لكن يأتي القول كرد فعل فوري أو شبه فوري ، أي وليد ساعته .

ومن ذلك ما قاله اللفتنانت جنرال (الفريق) البريطاني السير كيجل Kiggell بعد رؤيته للطين والأرض الموحلة والأمطار في ساحة معركة أمام الألمان في منطقة الفلاندرز عام 1917 إذ قال : " يا إلهي هل أرسلنا الرجال للقتال هنا حقا ؟ " . فقد كانت معركة رهيبة بلغت فيها الخسائر البريطانية 400,000 بين قتيل وجريح ، مقابل 65,000 للألمان .

وكان للعرب في تاريخهم الطويل دور عسكري هام ، وإنجازات عسكرية لا تقل بحال عن إنجازاتهم الحضارية ، ولم يعد العرب أهل حرب " الكر و الفر " فقط بل أظهروا عبقريات عسكرية تجلّت في فتوحاتهم ، ويحفل التراث العربي بالكثير من جوانب الجغرافيا العسكرية التي تشير إلى موروث عسكري يعتّد به ، ولهم أقوال و آراء منها كمثال : كان زياد ابن أبيه (1 – 35 هجرية ) وكان من دهاة العرب يقول لقواده : " تجنبوا إثنين لا تقاتلوا فيهما العدو : الشتاء و بطون الأودية "

وأغزى الوليد بن عبد الملك جيشا في الشتاء ، فغنموا وسلموا ، فقال لعبّاد ابن زياد: يا أبا حرب ، أين رأي زياد من رأينا ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، قد أخطأت ، وليس كل عورة تصاب . وبذلك يثبت العربي مقدرة في تحديد الوقت والمكان غير المناسبين جغرافيا للعمليات ، وهما فصل الشتاء ببرده ومطره ، وبطن الوادي المنخفض المعرض لضربات العدو من الأعالي . كما تبين القصة كيفية الدفاع عن الرأي حتى أمام الخليفة القائد الأعلى للجيش.

تتشكل الرؤية العسكرية في كثير من الجوانب والعناصر الجغرافية، مما يعطي شمولية وإحاطة ممتازة للقرار العسكري ، ويبدو ذلك واضحا في رسالة الباحث والمترجم والعسكري لورنس Lawrence (1888- 1945) المعروف باسم لورنس العرب ، والموجة إلى رجل الإستراتيجية البريطاني ليدل هارت Liddell Hart عام 1933 في قوله : " عندما أتخذ قرارا أو أتبنى خيارا ، يكون ذلك بعد دراسة لكل عامل هام . ففي الجغرافيا البنية القبلية ، والدين ، والعادات الاجتماعية ، واللغة ، والميول ، والمعايير ، كل ذلك قريب لي أتلمسه كأصابعي " . وقد سبق السياسي الإيطالي الشهير ميكافيلي Machiavelli (1469-1527) لورنس في الجمع بين العوامل الطبيعية والبشرية إذ قال : " في وقت السلم على الجندي تعلُم طبيعة الأرض ، وكم انحدار الجبال ، وكم تنفتح الأودية ، وأين تقع السهول ، و أن يفهم طبيعة الأنهار والمستنقعات ، عندها وباستخدام المعرفة والخبرة التي حصل عليها في مكان ما ، في ذلك الوقت يمكنه فهم أي مكان آخر "


. وبناء على ذلك يدعو إلى الدراسة المقارنة ، من حيث تعميم الأمور في مكانين يتشابها في أحوالهما .

أكد الزعيم الصيني الشهيرماوتسي تونغ Mao Zedong ( 1893- 1976) على دور الإنسان والجوانب المعنوية عندما قال : " هناك النظرية المسمّاة ( الأسلحة تعني كل شيء ) …الأسلحة عنصر هــام في الحرب لكنها ليست بالسلاح الحاسم ، الذي هو الإنسان الذي يعوّل عليه وليس المادة ، إن صراع القوى ليس الصراع بين القوتين العسكرية والاقتصادية فقط ، بل و بين إحدى القوى ومعنويات البشر ".

يصدر قول عن شخص ليس بالعسكري أو الجغرافي ، ولكن يمكن تفسير قوله عسكريا أو جغرافيا بل و يمكن أن يفسر بما لم يقصده القائل أصلا، ومن ذلك قول الشاعر الأمريكي الشهير فروست Frost (1874-1963) القائل : " الأسيجة الجيدة تصنع جيرانا جيدين "

إذ يمكن تفسيره بأن القوات المسلحة القوية ( سياج الوطن) تجبر الدولة المجاورة على أن تكون جارة مسالمة وغير مؤذية ، كما يمكن أن تفسر بأن الحدود السياسية ( الدولية ) واضحة المعالم ، وغير المتنازع عليها ، تضمن حسن الجوار لعدم وجود مبرر للنزاع . كما يمكن أن تصدر عبارات مماثلة في كراسات تدريب القوات المسلحة ، ومنها ما ورد في كراسة الميدان الأمريكية التي تحمل الرمز FM 100-5(1993) وهو " إن الأرض terrain ليست محايدة ، فهي إما تساعد أو تعيق إحدى القوى المتنازعة " .
 كما ورد في الكراسة FM 100 – 5 (1982) " إن للطقس والأرض أثرا أكبر من أي عامل مادي آخر بما فيه الأسلحة ، والمعدات ، أو الإمدادات " .
 وقد نالت المعالم الطبيعية الكثير من الأقوال و الآراء ، ومما قيل في الصحراء ما أورده C.F Lucas Philip : " يمكن أن تكون الصحراء للوافد حديثا إلى الصحراء ، مكان رعب حقيقي ، حيث لا طرق ، و لا منازل ، ولا أشجار ، ولا معالم بارزة من أي نوع ولمسافات مئات الأميال . وسيجرب الخوف الحقيقي لأول مرة من أن يضيع تماما ، ويلاقي حتفه على أيدي عدوّه أو في قسوة الأراضي القاحلة في عمق الصحراء الخاوية "
 . وقال Maurice De Saxe في الجبال : " أولئك الذين يشنون الحرب في الجبال ، عليهم أن لا يمروا عبر شعابها قبل أن يجعلوا من أنفسهم أولا سادة المرتفعات "
 . وهذا أمر واجب ، إذ بدون السيطرة على المرتفعات الحاكمة لا تتمكن القوات من عبور الممرات والشعاب . كما قال W B Kennedy Shaw في الرياح : " لكثير من البلاد رياحها الحارة ومنها رياح الخماسين في مصر ، و الريح الشرقية في فلسطين ، ورياح الهرمتان في غرب أفريقيا ، اجمع كل هذه الرياح معا ، وأضف إليها الرمال ومذاقها وانفخها باتجاه الشمال ، لتخرج من أبواب جهنم ، عندها ستبدأ بمعرفة ماهية رياح القبلي في واحة الكفرة الليبية صيفا " .

ويبدو من هذا القول أن صاحبه قد عانى من رياح القبلي في الصحراء الليبية . كما يشابه ذلك تجربة اللفتنانت كوماندر Arlie Capps الذي قال : " لقد أعددنا قائمة بكل ما يمكن تصوره من معيقات طبيعية وجغرافية ، لكن إينشون حوتها جميعها " .


ويبدو كذلك إن هذا القائد البحري الأمريكي قد عانى الكثير في معركة ميناء إينشون إبان الحرب الكورية .
الجغرافيا العسكرية بين الماضي والحاضر


أصبحت مشاكل العلم العسكري في أواخر القرن 20 وبداية القرن 21 موضع نقاش واسع جدا، وذلك تبعا للتغيرات المثيرة التي حدثت في الوضع العسكري - السياسي الدولي ، ووجهات النظر الجديدة نحو ضمان استقلال الدولة وأمنها. ويتطلب التأثير العالمي للحرب على حضارة الأرض ، وتحديث وتطوير وسائل وأساليب الحرب ، والأفكار غير العادية في التقنيات العسكرية ، يتطلب كل ذلك تطويرا متسارعا للعلوم لعسكرية ، وتعاونا أكثر اتساعا وأبعد أثرا بين العلماء من مدنيين وعسكريين ، وتطويرا لبرامج بحوث أساسية للمشاكل الهامة في الحرب المستقبلية.

جلب التقدم العلمي والتقني بعض النتائج الهامة في جغرافية وكارتوغرافيا ( علم رسم الخرائط ) سطح الأرض . ويعود كثير من الأمر ويعزى إلى هيئة الأركان وهيئة الطوبوغرافيا لعسكرية الروسية في الاتحاد السوفيتي ومن ثم إلى الاتحاد الروسي الذي قدم مساهمات واسعة بهذا الصدد. ويبرز السؤال: وماذا بعد ؟ وما هي وجهة النظر في تطوير علوم الأرض بما يتعلق بالمجال العسكري؟ .

أحد الخصائص المعاصرة للحرب إمكانية وقوع الأعمال القتالية في كل حيز جغرافي ( فضاء خارجي outer space، والجو أي الغلاف الجوي atmosphere والماء hydrosphere واليابسة أي الغلاف الصخري lithosphere ) ، كما يمكن أن يجري هذا العمل على النطاقين المحلي والإقليمي من الأرض . لذلك يجب أن تكون دراسة الأنماط الجغرافية للحرب إحدى الخطوط والمسارات الرئيسة لأنشطة العلماء العسكريين وللعسكريين أنفسهم. وأن الفهم التقليدي للجغرافيا كعلم غير ضروري وغير مرغوب فيه لأن " كل سائق سيارة أجرة سيوصلني حيث أريد الذهاب " وفق كلمات ساخرة لمسرحية فكاهية ، وشخصية الشاب الجاهل في المسرحية أصبحت الآن في صراع مع المعايير التدريبية الحديثة للأفراد . وقد أنتجت المعلومات الجغرافية والطوبوغرافية وتقنيات معلومات الأرض آثارا جوهرية على الحرب الحديثة.

وعوداً إلى أوائل القرن التاسع عشر ، حيث احتاجت الجيوش إلى خرائط تفصيلية لكامل مسرح العمليات ، يعوّل عليها بهدف إدارة الحرب ، وكانت صناعة الخرائط تعتمد على المسوحات الطوبوغرافية ، وكان هذا المسار في الكارتوغرافيا cartography سائداً في الجيش الروسي لمدة طويلة ، وفي الثمانينات من القرن التاسع عشر ظهرت طريقتان في صنع خرائط الأقاليم : فنية وجغرافية ، وهكذا ابرز المسح الطوبوغرافي أساليب فنية لصنع الخرائط الطوبوغرافية والجغرافية ، في حين اعتمد التفسير والشرح على دراسة المكونات والعلاقات المتبادلة للظاهرة الجغرافية والمجتمع بناء على هدف وغاية الدراسة .

ولما كانت أعمال مسح الأراضي في روسيا تدار من قبل هيئة عسكرية وأخرى مدنية ، فقد نشأت وتطورت مدرستان علميتان للكارتوغرافيا الطوبوغرافية ، وتميزت المدرسة المدنية بالتحول التدريجي من الكارتوغرافيا الجغرافية العامة لمناطق الدولة الروسية نحو المسح المتخصص لاهتمامات الدراسة المعنية ، وتقييم وضمان الاستخدام الفاعل للموارد الطبيعية . وقد استخدمت هذه المبادئ لصناعة خرائط عرفت لاحقاً بالخرائط الخاصة أو الموضوعية thematic maps .

تطور المجال ( الحقل ) الجغرافي بذاته في المدرسة لعسكرية الجغرافية عن طريق هيئة الأركان العامة والمجال الطوبوغرافي ، وبوساطة الخدمات الطوبوغرافية العسكرية. وكانت معايير تدريب الجغرافيا العسكرية في هيئة الأركان العامة بالجيش الروسي عالية جداً ، وأدار مئات من الضباط مسوحات جغرافية عسكرية في روسيا ومناطق من دول أخرى ، وأعدوا وصفا وشروحات جغرافية عسكرية عملية بمستويات متعددة . وكان لمدرسة ما قبل الثورة الروسية سمعة وشهرة عالمية ، وكان قادتها - هيئة أركان الأكاديمية الأساتذة Shubert و Yazykov و Skalon و Golitsin و Milyutin - لديهم سلطات لا جدال فيها . وكانت أسماء علماء أالجغرافيا العسكرية مثال Przhevalskiy و Venyukove وKozlov و Pevtsov و Snesarev و Arsenyev وغيرهم معروفة على نطاق واسع .

أجبر المقصد الواسع لأعمال الجيوديزيا والمساحة مديرية الطوبوغرافيا لعسكرية على التركيز بشكل أساسي على الكارتوغرافيا الطوبوغرافية . وقد أدى التوكيد على المكونات الرياضية لصناعة الخرائط إلى أن عجز المحتوى الكارتوغرافي عن تلبية متطلبات القوات المسلحة .

أصبح الوضع أكثر سوءاً بعد ثورة تشرين الأول / أكتوبر 1917 من خلال حقيقة ترك القيادة الروسية لتحضيرات الجغرافيا العسكرية لمسارح العمليات لعسكرية . فقد أهملت المواد الجغرافية الكبيرة دون استغلالها عمليا نتيجة الفهم الضعيف للجغرافيا بين القادة من جهة ، وبين الاعتقاد العميق بأن معرفة مثل هذه المعلومات هي أمر ثانوي ، وقد استمرت هذه الحال حتى حزيران / يوليو 1941 .

كانت الحال مغايرة بشكل أساسي في ألمانيا ، ففي بداية الحرب العالمية الثانية كانت البلاد قد أرست قواعد مدرسة للجغرافيا مع لعسكرية إدارات لوضع الخرائط والمساحة للعسكرية لقيادة العليا للقوات البرية والإدارات المماثلة في هيئة الأركان العامة لسلاح الجو والقوات البحرية ، حيث لعب الكل دورا هاما . وكان للقيادة العليا لـ Wehrmacht ( قوات الدفاع ) هيئة خاصة موكلة بأعمال الاستطلاع وصناعة الخرائط ، وتقييم قواطع العمليات . وقبل الحرب بوقت طويل وضع الألمان خرائط ذات معلومات مفصلة لكامل الشطر الغربي من الاتحاد السوفيتي ، إضافة لكافة دول قارة أوروبا وشمال أفريقيا والشرق الأدنى والأوسط وشمال الهند . وبنهاية عام 1943 كانت هيئةالجغرافيا العسكرية للقوات البرية الألمانية قد أعدت 102 إصدارا ( تقريراً ) في الوصف والتفصيلات الجغرافية ،لعسكرية بينما شملت مثيلاتها لسلاح الجو الألماني عدة مجلدات تغطي معلوماتها منطقة تمتد من القطب الشمالي إلى شمال أفريقيا .

بقدر ما تعلق الأمر بهذه البلاد ( روسيا ) في أواخر عام 1941 أجبر الموقف على جبهات القتال قيادة القوات المسلحة السوفيتية بشدة على مراجعة دور وتقييم العوامل الجغرافية. وقد أظهرت فترة بداية الحرب بجلاء أن استخدام المصادر التقليدية للمعلومات لعسكرية - الخرائط الطوبوغرافية - غير كاف لمواجهة المهام العملياتية والتعبوية . كانت احتياجات الجيش الأحمر ( الروسي ) لمزيد من المعلومات من المعلومات الجغرافية الشاملة مما أجبر على البدء بإيجاد مؤسسات أكاديمية سوفيتية بداية من شباط / فبراير 1942 كمؤسسات حكومية فيها علماء الجيومورفولوجيا ( علم أشكال سطح الأرض) وخبراء التربة وعلماء النبات . وقد صممت المؤسسات كبداية لإنتاج الخرائط لشتى صنوف الأرض terrain واختلاف القدرة على عبورها والحركة فيها ، وأحوال بناء المطارات ، وخاصية التمويه الطبيعي والتخفية . وقد أولي اهتمام خاص لأثر غطاء الثلج . وبداية من عام 1943 تم إعداد مجموعة من الجغرافيين المحترفين كجزء من إدارة الطوبوغرافيا لعسكرية ، حيث وفرت المجموعة وصفا وشرحا عاما للقواطع الاستراتيجية والمناطق الحدودية لقارتي أسيا وأوروبا .وخلال الحرب الوطنية الكبرى Great Patriotic War تمت طباعة ما يزيد على 900 مليون خارطة في الظهير hinterland بإدارة المناطق الخلفية ، وكذلك 35 مليون نسخة خارطة والوثائق الجغرافية الأخرى في منطقة المعركة. لذا يوجد سبب جيد للقول : بزغت الجغرافيا العسكرية والكارتوغرافيا لعسكرية كعلمين مكتملين من خلال مكانتهما ودورهما .

واليوم أدى غياب مدرسة وطنية للجغرافيا لعسكرية ، والتحيّز الفني للكارتوغرافيا ، وعدم وجود قاعدة نظرية كافية لتطبيقاتها بالعلم العسكري والممارسة ، كل ذلك أدى إلى وضع ُتركت فيه الخرائط الخاصة دون الاستفادة منها تقريبا في وحدات الخطوط . إن أساليب استعمال الخرائط في تقييم الموقف situation assessment وصنع القرار وفي تمارين القيادة والسيطرة باقية بمستوى أوائل القرن العشرين . وتعاني القوات المسلحة نقصاً حاداً في الخرائط الخاصة المعدّة لأسباب مختلفة . ويمكن فقط سد هذه الفجوة عن طريق إيجاد أو إعادة حقل (مجال دراسة) الجغرافيا العسكرية كمزيج من المعرفة الأساسية والفروع المختلفة للعلوم استنادا إلى مفهوم معين ومحدد . وسيسهل الاعتماد على البيئة الجغرافية في الأعمال القتالية من دراسة النماذج الجيوبولتيكية والجغرافية والطوبوغرافية والعملياتية / التكتيكية للموقف العسكري الجغرافي .

عندما لا يخرق تجحفل القوات groupings of forces الدفاع ، لكنه يسعى لتهديد نقاط ضعيفة أو تجاوز مناطق محصنة ، فإن فعالية تخطيط القتال والعمل ستتوقف بدرجة كبيرة على مقدار توفر المعلومات المفصلة والتي يعتمد عليها عن المعلومات الجغرافية لمنطقة المعركة ، مثل خصائصها العملياتية / التعبوية ، والحالة المحتملة للطقس ، والمناخ والتغيرات الجيوفيزيائية .ومن الأهمية بمكان الأخذ بالاعتبار ليس فقط أي حركة للوحدات لعسكرية الكبيرة والأقل حجما فقط بل يجب أن تعتمد كل خطوة من قبل أي جندي على المعرفة والفهم للموقف الجغرافي القائم على أرض المعركة .

إن القدرة على عبور الأرض terrain passability يتطلب توجيه وإرشاد شامل عن الخصائص التعبوية لعناصر الأرض ، ولون الأرض لأغراض التمويه والتخفية ، والتركيب الطوبوغرافي لسطح الأرض ، وذلك من خلال دراسة حاسمة لمعرفة ما تبدو عليه الأرض، ومما تتشكل ، وكيفية تغيرها مع مرور الوقت . ومن الواجب أن يكون من الأساسيات تقديم وصف علمي جغرافي للجبال وغابات التييجا taiga ( إقليم غابات مخروطية وأعشاب في سيبيريا ) والمستنقعات والصحاري ، ودول ومناطق الشمال والأقاليم المدارية ، واعتمادا على هذا تتم مراجعة فصول الفن العملياتي والتعبوي .

ومن المفارقة ، إن الفكرة المعتمدة عموما لتقييم الأرض terrain assessment تفتقر إلى أساس علمي ونظري أو إلى إجراء تطبيق مقنع . ولا يمكن دوما رؤية عناصر الأرض كمصدر للخطر أثناء الأعمال لعسكرية (يرجع هذا للافتقار المعرفي للأرض من جهة ولخصائصها من جهة أخرى ) كما لا يمكن تجاهل الأمر حتى في مساق ومسار لعب القيادة والأركان . إن من الأهمية والخطورة بمكان تعلم تقييم الوضع الجغرافي ، حتى يمكن فرض الإرادة على العدو ، وحتى تستغل خصائص منطقة المعركة لتحقيق النصر .

لقد ظهرت أنماط وأشكال تعبوية جديدة ، بما فيها ساحة المعركة الممتدة extended battlefield وبمعنى آخر ؛ إن الأعمال القتالية في المناطق المنعزلة في ظل غياب خط جبهة واضح المعالم تُرى كجمع من معالم جغرافية تعبوية .

وفي الوقت نفسه يجب فهم أن كل هدف أو معلم طوبوغرافي هو جزء من معلم تضاريسي ، وليس مجرد رمز أو علامة على الخارطة الطوبوغرافية . ومثال ذلك عدم كفاية معرفة الارتفاع النسبي والمطلق لممر جبلي ما أو مقدار شدة انحدار سفوحه ، بل ويجب معرفة الغطاء النباتي في الممر ، إضافة لأحوال الأرض وظروفها ، وأحوال الطقس المحتملة والمتوقعة، وأحوال المنطقة في ضوء معلومات الأرصاد الجوية في الوقت المطلوب من السنة، وخصائص التربة لتقدير أحوال التخفية والتمويه والرصد وإطلاق النار ، والتدابير الهندسية على الأرض . كما أن هناك معلومات أخرى هامة جدا عن المياه المتوفرة ومدى قرب مصادرها ، ومقدار سُمك الثلج المتراكم ، وسُمك الثلاجات ( الأنهار الجليدية ) وأحوال التغيم ، والرطوبة ، واحتمال تشكل الضباب ، بل وحتى تفاصيل أعراق السكان ( أصولهم ) ، وأعداد السكان المقيمين في المناطق المعمورة الأقرب للممر الجبلي .

عند تحليل الخبرة في الحروب المحلية local wars الحديثة تجب ملاحظة التنوع الهائل في الظروف الجغرافية للحرب ، حيث تحارب القوات على جبهتين ؛ ضد العدو ، وضد البيئة ( الطبيعة ) . وهكذا تتصف الدول الجبلية بأرض وعرة ومتكسرة ، وعدد كبير من العوائق والحواجز المنيعة ، وقلة الأرض الممكن عبورها ، وغلبة الأراضي المغطاة بالصخور والحجارة ، وشبكات طرق بدائية ، وقلة المناطق المعمورة . وهناك تنوع بأحوال المناخ والطقس والنبات وفق مقدار ارتفاع المنطقة ، ويصاحب ذلك تفاوت يومي حاد بدرجات الحرارة ، وكثرة تشكل الضباب ، وغطاء من الغيوم قليلة الارتفاع ، وأمطار غزيرة ، وتساقط كثيف للثلوج ، مما يتسبب أحيانا بتغيرات غير متوقعة أو مألوفة بمنسوب مياه الأنهار. ويصعب التوقع الجغرافي إلى حد كبير بسبب الانهيارات والانزلاقات والحجارة التي تغطي المنحدرات ، وتجمد الطرقات، وتراكم الثلج ، والانهيارات الثلجية والحجرية والطينية ، وفيضان الأودية الجافة عادة بسبب غزارة الأمطار وانصهار الثلوج ، كل ما سبق إضافة إلى محدودية توفر مصادر المياه في عدد من المناطق ، ونقص الأخشاب ، كل ذلك يؤثر على مسار الحرب بدرجة كبيرة .

لا بد من القول : إن مقدار المعلومات التي توفرها الخرائط الطوبوغرافية لا يكفي للتقييم الفعال ، وتوقع الموقف القتالي ، أو اتخاذ القرار الأفضل ، لذا لا بد من استخدام خرائط عسكرية خاصة ، ومن ذلك على وجه الخصوص استخدام أساليب وطرق لدراسة سطح الأرض مثل الكارتوغرافيا السريعة ، وتحليل الصور والقياس من الصور الجوية والفضائية وعلوما أخرى ، مما سيوفر الخرائط المطلوبة . ويمكن أن تستخدم هذه الخرائط كوسيلة أساسية لمعلومات متكاملة ومجمعة ، وكقاعدة لعرض صورة للعمل العسكري ، ومنظومة هندسية للدفاع عن دولة ما ، وشكل وثائقي أخير لتقديم وعرض المعلومات والبيانات النهائية .

ُتبرز النزاعات المسلحة في أواخر القرن العشرين الحاجة لنوع جديد من الإسناد القتالي؛ كإسناد معلومات أرضية ، ويشمل إسناد جغرافي وطوبوغرافي وكارتوغرافي و جيوديسي ( علم قياسات الأرض) ، وملاحي ، ورصد جوي ، وجيوفيزيائي وبيئي . ويتطلب ما سبق خرائط عسكرية إلكترونية خاصة لما يمكن عبوره من أراضي ، وظروف التخفية والتمويه والرصد والمراقبة وإطلاق النار والتوجيه والظروف الأخرى . في الحرب الحديثة تُقدم المعلومات للعسكريين من مراكز القيادة والسيطرة ، وهذه يجب أن يستقبلها العسكري ويعرضها بوساطة حاسوب شخصي PC يبين له موقعه على الأرض ، ومواقع القوات المعادية ، وتوزع الأهداف ، كما يبين مهام قتالية معينة ومحددة . وفي الوقت ذاته إن محاولة إيجاد أنظمة معلومات جغرافية متخصصة دون دراسة شاملة ونظامية للعوامل الجغرافية ، أو دون فهم سليم وتام للعلاقات المعقدة المتبادلة للعمليات الطبيعية سيحرف ويشوه ببساطة وضع الموقف الفعلي لساحة المعركة. وهذا يؤكد على الحاجة لوضع وتطوير نظرية شاملة للمعلومات الجغرافية الكارتوغرافية .


إضافة لما سبق من الضرورة بمكان النهوض بالمعرفة الجغرافية العسكرية للضباط ، ومن ثم ثقافتهم الجغرافية في نهاية الأمر . ومن المهم جدا مراجعة وتعديل مضمون مواضيع عسكرية محددة : الطوبوغرافيا لعسكرية ، والجغرافيا لعسكرية ، الإسناد الطوبوغرافي – الجيوديسي ، العمليات والتعبية ، والهندسة لعسكرية ، والمواضيع الأخرى حيث تكون الأرض terrain والظروف لعسكرية – الجغرافية موضع دراسة خاصة . ويتبين من الخبرة أن هناك سببا وجيها في أن الجغرافيا العسكرية والطوبوغرافيا لعسكرية كانتا من المواضيع الرئيسة في أكاديمية الأركان الروسية العامة . وبمرور الوقت فُقدت المبادرة الاستراتيجية في تطوير هذه العلوم ، كما أنها تمر في وقت حرج لفعل ذلك .

في هذا السياق يُقترح إيجاد فرع دراسة ، ومنبثق عن المواضيع لعسكرية المتخصصة ، يهدف لدراسة أشكال سطح الأرض landformsوتقييم وتوقع التغير في مسار الأعمال القتالية . إن الفكر العملياتي – التعبوي والجغرافي وتطويره في مؤسسة عسكرية بمستوى تعليمي عال ، سيمكن القائد من اتخاذ القرارات الأفضل ، والخروج بأساليب إبداعية في الأعمال القتالية .

أهمية الجغرافيا العسكرية كخلفية علمية للجيوستراتيجية

مقدمة:
يتمتع الجغرافي في أوروبا بمكانة هامة في مجتمعه، ليس لأن كلمة "جغرافي" توقع نوع من الرهبة في عقول السكان بل لأن الثقافة العامة لهؤلاء السكان ساعدتهم على إدراك دور هذا الجغرافي في صياغة المكان وبالتالي في نشؤ وتطور عظمة الأمة، وكذلك لإدراكهم في نفس الوقت، بأن الجغرافي كان له الدور الأكبر في توثيق مواقع وحركات جيوشهم الاستعمارية وتوثيقها خرائطياً بدقة عالية، متتالية مع الزمن. أي أنهم يستشعرون من وراء الجغرافي تلك المهنة التي هيكلت ماضيهم البعيد والقريب، وساهمت في غناء أوروبا الاستعمارية وأدت إلى تكوين عظمتها العسكرية والاقتصادية حتى منتصف القرن العشرين.
والجغرافي الأوروبي بعد انقضاء الفترات الاستعمارية، شكل أصول الحضارة التي يحمل سطح الأرض أشكال بصماتها وتعكس باع الجغرافي الذي مهد هذا السطح، كونه مهندسا للمجال، لتحضير القاعدة التي سمحت لتلك المجتمعات بتطوير مرافق اقتصادهم الزراعي والصناعي والخدمي.
فالجغرافيا ليست هدفاً بحد ذاتها، بل هي وسيلة أداة، وهي تحتوي على الكل، والكل المرئي والملموس والمحسوس من سطح الأرض الذي يعيش عليه الإنسان ويحيا، يشكل الجغرافيا. ومع بداية عصر النهضة دعيت الجغرافيا بعلم "الجغرافيا الأم" لأنها أم العلوم السائدة التي اهتم بها الإنسان حيث كانت جميع الدراسات والأبحاث المتعلقة بالأرض هي "جغرافيا" وذلك حتى أواسط القرن التاسع عشر، الذي عرف البدايات الحقيقية لتخصص العلوم وتميزها وتفردها عن بعضها البعض بالتسمية، وبحقل الدراسة، وبالمنهجية، والأهداف.
فإذا كان حقل الدراسة الجغرافية هو "المكانSPACE"([1])، فإن الجغرافيا إذن هي القاعدة الأرضية لكل أعمال البشر منذ بداية الحضارات القديمة، وسطح الأرض يحمل آثار عمل البشر التي تعكس مقدار تطورهم في مختلف العلوم وبراعتهم الحربية والبنائية.
فالجغرافيا كانت منذ أن بدأت الحضارات الأولية ولازالت هي البوتقة الأساسية للإستراتيجية العسكرية للإنسان في صياغة خططه الهجومية أو خططه التكنيكية. لقد استعرض أحد الضباط الجغرافيين الفرنسيين وهو (جوستاف ليون ينوكس ـ1890 - 1921 GUSTAVE-LEON NIOX,) في كتابه عن الجغرافيا الحربية بإسهاب دور الجغرافيا في الحروب، وهو الذي أرسى مفاهيم وأسس ومبادئ الجغرافيا الحربية، وبدأت هذه المبادئ بالتطور مع نهاية الحروب العسكرية في الفترة النابليونية، وبدأت باقي الدول الأوروبية كإيطاليا، والنمسا، والبرتغال، وسويسرا، وروسيا تستفيد من الفكر الجغرافي الحربي الفرنسي القاضي بالتعرف الجيد على مختلف عناصر جغرافية المكان من أجل استخدامها والاستفادة منها للأعراض العسكرية، فأشكال التضاريس، والمناخ، والهيدرولوجيا "جغرافية المجارى المائية السطحية"، وجغرافية النبات، تشكل قواعد العمل الرئيسة في التحليل الحربي للأغراض الدفاعية والهجومية على حد سواء.
ولأجل أن تؤدي الجغرافيا دورها، فقد قامت المدارس والكليات العسكرية الكبرى بتدريس الجغرافيا الحربية وأصولها وقواعدها وهذا الأمر يعني ويعكس أهمية العلوم الجغرافية للأغراض العسكرية! كيف لا، والجميع قادر الشعور بالكيفية التي قامت بها مختلف وزارات الدفاع في العالم القديم بتطوير أهم تابع لها وهي التوابع المتمثلة في الخدمات الطبغرافية، التي تدعى بإدارات المساحة العسكرية، أو المديريات الطبوغرافية، أو المعاهد القومية الجغرافية كما في العاصمة باريس، وكيف قامت هذه الإدارات والمعاهد المساحية ـ الجيوديزية ـ الطبغرافية بأداء دورها في تمثيل مختلف عناصر سطح الأرض خرائطيًا وبمقاييس عدة، وضعت بداية لخدمة الأغراض العسكرية وأصبحت في الوقت الحاضر تخدم مختلف النشاطات المدنية للإنسان.
ولكي يتمكن العسكريون من تنفيذ خططهم، فكان لابد من السيطرة على جغرافية سطح الأرض، فكيف يمكن السيطرة على جغرافية السطح دون التمكن منه بواسطة الخرائط العلمية الفنية عالية الدقة في التنفيذ، الأمر الذي أضفى ويضفي على العلوم الجغرافية، هذا البعد الفني الرائع الذي طورته الجغرافيا بواسطة علومها الكارتوجرافية المختلفة.
لقد سيطرت الجغرافيا على الفكر العسكري للغرب طوال القرن الثامن عشر والتاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وكانت الجغرافيا الحربية توحد هذا الفكر العسكري الغربي، وكذلك الشرقي، أي كانت تشكل عامل مشترك للفكر الاستراتيجي العسكري للقوى الكبرى في العالم. ولأسباب تتعلق بأساليب الكشف المتطورة فيما وراء الحدود التي عرفها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها الكشف الراداري المحمول بواسطة الطائرات والأقمار الصناعية، تطور المسح الأرض بواسطة الأقمار الصناعية، وتطورت آليات المسح الفضائي والجوي الرقمي واستخدام الحواسيب في آليات الكشف والتحليل، جعلت الجغرافيا بداية تتجرد من أهميتها الحربية، ولتصبح "جغرافيا مدنية" وتحولت الدراسات والأبحاث الجغرافية من أهدافها لتستقر عند تطوير واستخدام سطح الأرض الاستخدام الأمثل، وتحول الجغرافي من مهندس حربي للمكان الى مهندس تخطيطي للمجال، وفي نفس الوقت أدى إلى ترجيح كفة العلوم الجغرافية باتجاه التطبيقات الحضرية عوضًا عن التطبيقات الحربية التي كانت سائدة في القرنين 18 و19 وبداية القرن العشرين.
لقد عرفت الجغرافيا الحربية ذروتها في القرن التاسع عشر، ففي إيطاليا تؤكد دراسات "Ferrucio Botti" ذلك وبأن الجغرافيا كانت أهم مركبة يجب أن تدرك في الفنون العسكرية، وفي الواقع وتأثرت المدرسة الفرنسية العسكرية بالمدرسة الايطالية واشتهر في فرنسا عدد في كبار الضباط الذين تخصصوا في الجغرافية الحربية خاصة بعد الحرب الفرنسية الألمانية (1870-1871م) ومنهم على سبيل المثال وليس الحصر"Niox" و "Marga"الذين قاما بتأليف موسوعة هامة في الجغرافيا الحربية الفرنسية وقاما بتدريسها حتى نهاية الثلاثينات من القرن العشرين.
أما سويسرا فقد كان لها باع كبير في الجغرافيا العسكرية الحربية التي طورها وساهم في بلورة أهميتها في المعارك الحديثة العقيد "Arnold keller" الذي كان رئيساً لأركان الجيش السويسري، قام بدوره بتأليف مرجع في الجغرافيا العسكرية لسويسرا وهو مكون من 34 كتاب (جزء) بين عامي 1906 و1922م، وكان يعتقد بأن الدول الأوروبية لن تحترم كون سويسرا دولة محايدة غير حربية وغير عدوانية، وبأنها ستتعرض للعدوان المباشر أو ستستخدم أراضيها لعبور الجيوش المتحاربة.
وهكذا نجد بأن لكل دولة أوروبية عدد من الجغرافيين العسكريين الذين ساهموا في وضع استراتيجيات دفاعية هامة عن بلادهم أخذ بعين الاعتبار الخصائص الجغرافية داخل المجال الوطني، وكذلك أخذا بعين الاعتبار شروط الموقع وخصائصه، ونستطيع أن نجد في السويد أعمال "Gunnar Aselius" وفي رومانيا أعمال "Tudorel Ene" وفي البرتغال أعمال "Toao Vieira Borges".
ولا يستطيع أحد الجزم بأن الجغرافيا الحربية هي جغرافيا أوروبية فإن عدد كبير من الدراسات الجغرافية العسكرية ظهرت في كندا بين عامي 1867 و2002م والتي تؤكد بأن المدرسة الجغرافية العسكرية الكندية بعد تأثرها بالفكر الفرنسي تحولت إلى التأثير بالفكر الأنكلوساكسوني الأميركي.
وبالرغم من تراجع كفة الجغرافيا الحربية في الغرب لتحل محلها الجغرافيا المدنية أو الحضرية، فقد بقيت الجغرافيا الحربية ذات أهمية خاصة في مجموعة الدول الأسيوية وخاصة لدى المفكرين العسكريين في اليابان، والصين وكوريا وأندونسيا، دراسات "Kyoichi Tachi Kawa" في اليابان تثبت بأن من أهم أهداف الجغرافيا الحربية في اليابان تكمن في تنظير المجال "Space" لأغراض إستراتيجية تطبيقية دفاعية أو هجومية وأقرت قيادة أركان الجيش الياباني أهمية الجغرافيا الحربية من خلال هذا التعريف منذ عام 1941.
الدراسات والأبحاث في الجغرافيا الحربية أو العسكرية التي عرفت ذروتها في القرن 19 أدت إلى تطوير علوم عسكرية هامة منشقة أو متفرعة منها وخاصة علم الجيوستراتيجية "Geostrategy" أو الجغرافيا الإستراتيجية ـ فما هي أصول هذه الجغرافيا ومفاهيمها.

الجيوستراتيجية:
التغيرات الملاحظة في الفنون الحربية والأدوات الالكترونية المستخدمة بها لعمليات الكشف المكاني، وللكشف فيما وراء الخطوط بالإضافة إلى الاستخدام الموسع لآليات القتال عن بعد ولوسائل التدمير الشامل غير الإستراتيجية، ومختلف أنواع الحروب الإعلامية المتطورة، والالكترونية، وحروب المحاصرة السياسية والمحاصرة الاقتصادية، والتجليات التي أدت الى تطور آليات الحروب الاقتصادية، ناهيكم عن حرب النجوم، والحروب التجسسية العسكرية منها والاقتصادية، القائمة حتى بين الدول الصديقة، جعلت الجيوستراتيجية تتخذ لنفسها أبعاد عملاقة تتعدى حدود القارات لتشمل العالم أجمع وتعتبر الأرض بأنها ميدان واحد للعمليات، وأنه على المفكرين المتخصصين في الجيوستراتيجية أن يتدربوا على هذا البعد الكوني، بالرغم من كون هذا المسرح العالمي للعمليات الذي هو ميدان الجيوستراتيجية مع مطلع القرن 21، هو مسرح مركب بداخله يحتوي على عدد من المستويات السياسية والاقتصادية الخاصة بعلاقة الدول مع بعضها البعض، تحدد أنماط المسارح الرئيسة للعمليات، التي تتفاوت فيما بينها من حيث الأهمية، ومن حيث النتائج المتولدة عن انتهاء أو وصول إحدى العمليات الى أهدافها الجزئية أو الكلية.
ونستطيع على سبيل المثال، مقارنة مسرح العمليات في جنوب الهادي المشتمل على بعض المستعمرات الفرنسية القديمة، الذي بدأ دوره بالتقلص من حيث كونه مسرحاً ذو أهمية سياسية خاصة بعد أن انتهت فرنسا من إجراء آخر تجاربها النووية في عام 1995، مع المسرح العمليات لشمال الأطلسي الذي يعتبر جزيرة أيسلندة مركزًا جغرافيا له. لقد بدأت الأهمية الجيوستراتيجية لهذا المسرح بالتطور بشكل عجيب كون أيسلندة جزيرة مفصلية بين العالم القطبي والعالم الأطلسي، مما جعل أيسلندة غير قادرة على الحفاظ على حيادها السياسي.
ومن ناحية أخرى، يلاحظ إجماع المتخصصين، على أن من أهم المسارح الجيوستراتيجية على الإطلاق هو المسرح المكون من مجموعة دول الخليج وبلاد الشام ومصر، الذي يعتبر محركاً للسياسة العالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي استقطب وسيستقطب أهم المخططين الجيوستراتجيين في العالم.
المسارح الجيوستراتيجية الإقليمية تعكس أصداء المستويات الثلاثة للعمل الجيوستراتجي، وهي المستوى العالمي والمستوى الإقليمي، والمستوى المحلي، وتداخل أصداء الجيوستراتيجية الخاصة بهذه المستويات الثلاثة داخل أحد مسارح العمليات، يؤول إلى نشوء وضعيات في غاية التعقيد، ونتائج يصعب أحيانا تحملها على المستويين السياسي والاقتصادي، ولا أدل على ذلك إلا بالنظر إلى مسرح العمليات في منطقة الشرق العربي، والعلاقات الإستراتيجية المعقدة الناتجة عن الصراع العربي الإسرائيلي.
والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه الآن يكمن في ماهية دور الجيوستراتيجية؟، وهل نعتبرها كلمة مرادفة إضافية لمجموعة المفردات المتوفرة لدينا مثل: الجغرافيا السياسية، أو جغرافية التفكير السياسي؟، أم أن الجيوستراتيجية هي علم حديث له تصوراته ومبادئه ومنهجياته وطرقه، تاريخه وفلسفته، وأنه كعلم قادر على الإجابة على الإشكاليات التي تجابهه والتي تنتج عنه؟
وتعتبر الإجابة عن هذه الأسئلة عملا ضخما لا يستطيع محيط هذا المقال من استيعابها، وستؤدي الى تأليف عدد في الكتب المتعلقة بالجيوستراتيجية، لذلك فمن المفضل الاكتفاء بتناول المعنى الأكثر قربا لإدراك تعريف مقبول لها، فإذا قبلنا بأن الجغرافيا السياسية تعني سياسة المجال أو سياسة المكان فأن الجيوستراتيجية تعني إستراتيجية المجال أو إستراتيجية المكان. وهنا نستطيع أن ندرك بأن الجيوستراتيجية تعني عبقرية إدراك الخصائص المكانية ـ الجغرافية لاستخدامها لمختلف الأهداف العسكرية،السياسية، أو الاقتصادية بهدف السيطرة وتحقيق المكاسب التي تعتبر المكاسب العسكرية جزء منها.

المركبات الجغرافية للجيوستراتيجية:
يستطيع المجال أو سطح الأرض أن يشكل حاجزا منيعا، تستهلك بداخله العدة والعتاد، وكلما كبرت أبعاد مسرح العمليات كلما انخفضت النتائج المتوخاة من الخطط الإستراتيجية المتبعة للوصول إلى الهدف، بالرغم من استخدام الإنسان الحديث لوسائل نقل وأدوات اتصال، وطرق إليكترونية متطورة لكشف ما وراء مسارح العمليات ولكشف مسارح عمليات الآخر. ومن الخطأ في العمل الجيوستراتجي إدراك المسافات والأبعاد فقط لكونها تعتبر أهم المكونات الجغرافية للمسارح الجيوستراتيجية، وعليه فإن المخطط الجيوستراتجي العامل لأهداف عسكرية أو اقتصادية أو لأهداف إدارية ـ سياسية، أن يعتمد مختلف العناصر الجغرافية في خططه، وهكذا نستطيع دون الدخول في تفاصيل نوعية المخطط الاستراتيجي والأهداف المنوطة بالعمل الجيوستراتجي، القول بضرورة الاعتماد على كافة العوامل الجغرافية التي تتضافر وتتفاعل مع بعضها البعض لتكوين الشخصية الجغرافية لمختلف المسارح الجيوستراتيجية.

المسافة:
يتحدد المسرح الاستراتيجي للعمليات مع كبر المسافات المقطوعة، بالرغم من أن التطور التكنولوجي لوسائل النقل أدى إلى إدخال تغيرات هامة في كيفية التعامل مع هذا العامل الجغرافي للحد من تأثيراته، فبينما كانت الحرب العالمية الأولى ذات مسرح عمليات جيوستراتجي ينحصر في قارة أوروبا، صار المسرح العمليات الجيوستراتيجية للحرب العالمية الثانية مسرحا دوليا عالميا. واليوم بعد أن استطاعت التكنولوجيا الحديثة هضم المسافات الأرضية بانتقالها إلى تطويع المجالات الفضائية، لتدخل أبعادا إضافية في الجيوستراتيجيات الحديثة، والمتمثلة في السيطرة على المسارح الجيوستراتيجية للأرض ابتداء من الفضاء، مما أدى الى تطوير تعابير جديدة منها على سبيل المثال لا الحصر " الجيوستراتيجية الفضائية" التي يكمن دورها في تقديم الدعم الفضائي لمسارح العمليات وأصبحت النتائج العملياتية متعلقة بنوعية التوابع المستخدمة مما جعل للجيوستراتيجية مركبة تقنية ـ فضائية هامة جدا.
الشروط المناخية:
تأثير المناخ على المسارح الجيوستراتيجية هو من المسلمات التي تمت دراستها عدد كبير في المرات ، ولا شك بأن الشروط المناخية تدخل تغيرات تؤدي إلى تأجيل تنفيذ أو إلغاء العمليات التكتيكية التي تمهد لتطبيق الخطط الجيوستراتيجية على المجال العملياتي إن كان عسكريا أو اقتصاديا أو لأغراض الإدارة المدنية كإدارة الأراضي وغيرها.
والأمثلة كثيرة في تاريخ الحروب العالمية والإقليمية، فالثلوج تمنع من استخدام جيد ومتناغم لسلاح الطيران، كما أن العواصف الرملية تؤدي إلى تعطيل كامل ومحتم للعمليات التكتيكية، والترب الطينية المتولدة عن ذوبان الجليد تؤثر في حركة الآليات الثقيلة، والحرارة الناتجة عن تشغيل محرك الدبابات الثقيلة وناقلات الجنود الميدانية، تسمح بكشفها في ليالي الباردة، وفي الأراضي ذات المناخات الباردة وشبه القطبيةْ، ناهيكم عن تأثير التجلد أو الجمد على رجال العمليات الميدانية بمختلف أنواعها، وخاصة في الأراضي ذات المناخات الصعبة القريبة في المناطق القاحلة أو القطبية الصرفة، وأراضي الجبال العالية في العروض المعتدلة وغير المعتدلة في كافة فصول السنة.

الطبوغرافية:
تحدد الطبوغرافية ممرات واتجاهات العمليات والتنقلات العسكرية والبشرية الهامة للبضائع والسلع والتكنولوجيا، وغالبا ما تشكل الممرات مثل ممر خيبر في أفغانستان المستخدم من قبل الغزاة والفاتحين منذ الاسكندر الكبير، الطريق الوحيدة المفتوحة للحركة، ناهيكم عن الفتحات الجبلية التي لولاها لما استطاعت الحركة البشرية مهما كانت أغراضها أن تتم بسهولة على سطح الأرض كفتحة فولدا في وسط ألمانيا وفتحة كوزيزيا على الحدود الإيطالية، وفتحة حمص في سوريا والممرات الجبلية بين سلاسل الأطلس المتوسط والأطلس الكبير في المغرب العربي التي لولاها لما استطاع الإنسان التحرك بين الواجهتين الأطلسية والقارية للمغرب.
الجميع يعلم أهمية ودور التلال في تكوين التحصينات العسكرية المتقدمة في الجبهات القتالية الحديثة، وخير مثال على ذلك تمركز الجيش الإسرائيلي بشكل دائم على رؤوس التلال في جبهاته الشمالية مع سورية ولبنان، واستغلاله لأعلى قمة في المنطقة وهي قمة جبل الشيخ لإنشاء أكبر مرصد عسكري إلكتروني حديث في المنطقة، ونجد من ناحية أخرى أهمية الطبوغرافية في العمليات العسكرية في الحرب الدائرة في جبال كشمير بين الهند وباكستان، وكذلك في أفغانستان، حيث تلعب طبوغرافية الجبال دورا هاما في فشل أو نجاح العمليات التكتيكية بين مختلف أطراف النزاع الميداني، ناهيكم عن المناوشات الكردية التركية في شمال العراق التي بدورها تستفيد من الطبوغرافية الجبلية بشكل موسع.
وفي البحار والمحيطات فإن الممرات والمضائق البحرية تشكل نقاط إستراتيجية هامة، تحاول الدول القوية بحريا في العالم السيطرة عليها، كما أن أشكال السواحل وتعرجاتها تؤدي إلى نشوء حماية طبيعة للدفاع عن الأراضي الساحلية ولحماية السفن والمراكب في أيام الحرب، أما في أيام السلم فهي تشكل موانئ طبيعية تسمح لمختلف أنواع المراكب والبواخر باستخدامها كملاجئ أيام الاضطرابات الجوية الهامة.

شبكة الطرق والمواصلات:
جاء التطور التقني الخاص بالمركبات والآليات والسيارات المختلفة بضرورات جديدة خاصة بشبكة الطرق والمواصلات التي يجب أن تكون شبكة من الطرق المعبدة بشكل تسمح بتحقيق سرعات عالية مع تحمل كثافة مرورية عالية، وأن تكون بشكل دائم جيدة الصيانة، لتسهيل الحركة داخل مسارح العمليات إن كانت عسكرية أو مدنية.
ولا شك بأن تطوير شبكات الطرق يؤدي إلى تسهيل مهمة المحتل في المسارح العسكرية، كما حدث للجيوش الألمانية عند احتلالها للأراضي الفرنسية التي تحمل فوقها شبكة كثيفة من الطرق.
وكانت الطائرات في الحرب العالمية الثانية قادرة على الهبوط على أية أرض مستوية، أما اليوم فإن الطائرات الحديثة بمختلف أغراضها تتطلب تطوير قواعد جوية تحتوي على مختلف التجهيزات الخاصة بالطيران النفاث وصيانته، وتحولت بدورها القواعد الجوية إلى قواعد عسكرية قتالية من الطراز الأول، وهذا الأمر جعل منها أهداف يجب السيطرة عليها في الجيوستراتيجيات التكتيكية.

تناسب القوى:
والمقصود بهذا العامل هو "السكان"، فالكثافات السكانية لمختلف مسارح العمليات، وبقع التنازع السلمي والعسكري وكذلك أقاليم التطوير الإداري ـ السياسي التي تتطلب جيوستراتيجيات سلمية خاصة للتخطيط وإعادة استغلال الأراضي. فالحجوم السكانية تشكل قوى تؤدي إلى تزويد مسارح العمليات بالرجال ـ الأفراد، وكذلك تؤدي إلى تزويد السلطات العليا المسؤولة عن مسارح العمليات بالمفكرين القادرين على إدارة الأزمات إن كانت حربية أو مدنية.
الإنسان مولد للثروة وللتكنولوجية ومن هنا تأتي الأهمية الإستراتيجية لبعض الدول النامية كالصين والهند واندونيسيا والبرازيل، فالقوة البشرية أدت إلى تغيير النزاع أو تحويله لصالح المحتل أو لإيقاف العمليات العسكرية وتغيير مهمتها، وهذا ما أدى إلى تطور حروب العصابات لدى المجتمعات المتفوقة بأعداد سكانها والضعيفة تكنولوجيا، والأمثلة في هذا المجال لا تعد ولا تحصى في التاريخ القديم والحديث، لعدد من دول العالم شرقه وغربه، فهل تعتبر مهمة الجيوستراتيجية غزو المكان أم أن أهدافها المعلنة تكمن في استخدام خصائص المكان من أجل إعادة تطويعه لأغراض الإنسان النفعية الاقتصادية منها وغير الاقتصادية.
ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف فإن الجيوستراتيجية الحديثة تبحث عن تطوير الأمن القومي الداخلي كونه الإطار الذي يسمح بتطوير الأمة بمختلف قطاعاتها الاقتصادية، وإتباع الجيوستراتيجية الحديثة لمنهج "سلمي" قائم على تطوير آليات الدفاع عن المسرح العملياتي القومي الوطني الذي يمتد على كامل التراب الوطني للدول، ولا يعني هذا تخلي أصحاب القرار الجيوستراتيجي خاصة في الدول الكبرى عن طموحاتهم في السيطرة على اقتصاديات العالم للمحافظة على مكتسباتهم في خيراته وثرواته، لدرجة جعلت رؤساء بعض من هذه الدول يعلنون صراحة أنه من الخطأ التفكير بأن دولنا هي دول محايدة، ولن تتردد في استخدام الخيارات العسكرية المدعومة بالسلاح الرادع لتحقيق الأهداف الستراتيجية لحماية مصالحها.
ويلاحظ المهتمون والمتابعون لشؤون السياسة العالمية، بأن تطوير العالم لتكنولجيا المراقبة الفضائية باستخدام توابع ذات مرئيات عالية الوضوح المكاني، كمرئيات التابع الصناعي "إيكونس" والتابع الصناعي "كويك بيرد" جعل للجيوستراتيجية بشقيها العسكري والمدني بعداً فضائياً هاماً، كما يمكن اعتماد التفكير المغاير لذلك، والقول بأن الطموحات التي مازالت كثيرة ومتعددة للدول المتقدمة في العالم في حربها الاقتصادية، ونتيجة لمتطلبات الجيوستراتيجية الحديثة، فقد تم تطوير هذه التوابع الصناعية الماسة للأرض التي تقدم مرئيات في غاية الدقة والتفصيل لمختلف مسارح العمليات.
ولا شك في هذا المجال بأن الهدف الثاني والأكبر بعد الهدف الرئيسي الأول للجيوستراتيجية الحديثة، يكمن في تحقيق المكاسب وتكوين مناطق التأثير والأنظمة اللاحقة أو التابعة، ذلك أن الجيوستراتيجية التطبيقية تتطلب أن يكون هناك منافع ومكاسب من وراء الأراضي المحتلة ، التابعة أو الحليفة، بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق عبقرية اتخاذ القرار الصادر عن الاستراتيجي المسيطر أو الأقوى الذي يتخذ عادة "القرارات التكتيكية الهجومية" التي لها بالضرورة علاقات مكانية، وإلا فإنها لن تكون جيوستراتيجية ولن يتمكن الاستراتيجي من تطويع "مكان الآخر" لصالحه، وذلك باعتماد واقع المكان والعلاقات السياسية ـ الاقتصادية المهيمنة أو السائدة والأهداف الإستراتيجية المطلوب الوصول إليها.
وتحتاج الجيوستراتيجية اذن إلى المعلومة المكانية ـ الزمنية، وهذه المعلومة يجب أن تكون موثقة وصحيحة لكي تتمكن القرارات التكتيكية الصادرة حسب الخطة الجيوستراتيجة من أن تكون صحيحة وقيمة وبالتالي ذات فاعلية، والحصول على المعلومات المكانية بأن عن طريقين فقط هما: العمل الميدان، وآليات استشعار عن بعد بواسطة المرئيات الفضائية عالية الدقة، كما أن الحصول على المعلومات المكانية المرئية والبيانات الخاصة بمختلف الخصائص الجغرافية لأي مسرح عمليات تسمح بعزل وحصار هذا المسرح إعلامياً وقطعه عن العالم مما يؤدي إلى شلل كبير في مختلف مرافق هذا المسرح وسرعة وقوعه كقيمة نافعة إن كان ذلك بالمعنى الفكري أو المدني للجيوستراتيجية المستخدمة.
وهكذا نجد بأن الجيوستراتيجية هي ليست نوعاً من أنواع الإستراتيجية لأن المسئول الجيوستراتجي يهدف إلى السيطرة المتكاملة على المجال ـ الزمن من أجل أن يتمكن الإستراتيجي من اتخاذ قراره الصحيح والأمثل، ونظرياً نعتقد بأن الجيوستراتيجية لا تستخدم لأغراض "محو الآخر" أي لأغراض عسكرية بل هي تقوم على دراسة الطرق الأمثل لتنظيم المجال لزمن محدد لتحقيق أهداف عسكرية ومدنية ولخدمة الاستراتيجية السياسية ـ الاقتصادية، فهي إذن من هذا المنطلق أداة تقنية لاتخاذ القرار وهي تكتسب كل أهميتها من هذا المنطلق.
   
المراجع:
  
Abert Wohlstetter, Illusions of Distance, Foreign Affarirs, avril 1968, p. 243.
 Amiral castex, Sa majesté la surface, Revue de défense nationale, 1959, repris dans les Fragments stratégiques, 1991, sous presse.
 André Vigarie, Géostrategie des océans, Caen, Paradigme, 1990.
 Herve Coutau- Begarie, L'éternel retour du désarmement naval: , Revue maritime, 1990-2.
 Hervé Coutau-Begarie, Géopolitique théorique et géopolitque appliqué en Amerique latine, " Herodote, 1990-2."

Herve Coutau-Begarie, Geostragie de l'Atlantique Sud, PUF, 1985.

Herve Coutau-Begarie, géostrategie du pacifique, Ifri-Economica, 1987, pp. 175-176.

Hummel et Siewert, La Méditerranée, Payot, 1937, pp. 276-278.

James Cable, Une stratégie maritime sur mesure , a paraitre.

Robert Villate, Les conditions géographiques de la guerre. Etude de géographie militaire sur le front francais de 1914 a 1918, Payot.
 Spykman.G. Sloan, Geopolitics in United States Strategic Policy 1890-1897, New York, St- Martin Press, 1988.
 Yves Lacoste, "D'autres géopolitiques" , Herodote, 2e trimestre 1982 .
 Yves Lacoste, La géographie ca sert d'abord a faire la geurre, Maspéro, 1976, réedition avec une importante postface 1982.
 Yves Lacoste, Les différents niveaus d'analyse du raisonnement géographique et stratégique," Hérodote, 2e trimester 1980, p. 4.
 Yves Lacoste, L'Occident et la guerre des Arabes, Hérodote, n 60-61, 1er et 2e trimesters 1991, et infra dans ce numero.
 Zbigniew Brzezinski, Game Plan. A. Geostrategic Framework for the conduct of the US-Soviet contest, New York, The Atlantic Monthly Press, 1986, p.XIV.