الأحد، 18 ديسمبر 2011

دور الموروث الحضاري في تحديد مورفولوجية المدينة العربية والإسلامية

دور الموروث الحضاري في تحديد مورفولوجية المدينة العربية والإسلامية
د.محمد عرب الموسوي
مقدمة
    تطورت المدينة العربية نتيجة للفتوحات الإسلامية، بالإضافة إلى ما تم تشييده من مدن جديدة أضيفت إلى رصيد المدن القائمة، حيث اختاروا لها المواقع المتميزة وأضافوا إليها من فنونهم المختلفة والمتعددة في شتى المجالات حتى بلغت المدينة ذروتها ومجدها وأصالتها وعظمتها في ظل الدولة الإسلامية ، ويرجع ازدهار المدن العربية بعد ظهور الإسلام إلى عوامل عديدة منها الدينية والحربية والسياسية والاجتماعية، ومما لاشك فيه أن التجمع في المدينة كان يشكل قوة للإسلام، فأنشأ المسلمون الجوامع لتمثل قلب المدينة الديني والسياسي(1)
    وعندما فتح المسلمون اسبانيا ، كانت لديهم رغبة حقيقية في التعمير من منطلق عقيدتهم ، وآثارهم في قرطبة وأشبيلية وغرناطة وبغداد والبصرة تكشف إلى مدى ما وصلت إليه المدينة من ازدهار وتقدم في ظل المسلمين ، وعلى هذا المنهج القويم من الإعمار والتشييد سار المسلمون ينشرون دينهم ومدنهم في كافة الأقطار الإسلامية.  
    وتميزت المدن في العصور الإسلامية بمورفولوجية كانت وليدة احتياجات وظروف سكانها حيث لم يكن علم التخطيط معروفا بمفاهيمه ونظرياته المعاصرة، كما أن وسائل وأساليب البناء في العصور القديمة كانت تختلف كل الاختلاف عن مثيلاتها الحالية ، وعلى الرغم من ذلك ظهرت اتجاهات تخطيطية وعمرانية تمثل قيما ومبادئ ومعايير في تخطيط المدن، وعليه تعتبر المدن الإسلامية في العصور الوسطى مثالية من وجهة نظر التخطيط المعاصر بنظرياته الحديثة لما حققته من توافق وتطابق بين الاحتياجات المادية والمعنوية التي جاءت تشكيلا فراغيا يعبر عن المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، بينما انحدرت المدينة الإسلامية العربية في العصر الحالي مقارنة بمدن الغرب،  لأسباب عديدة منها، التقلص وانحسار النمو والتوسع والامتداد العشوائي نتيجة لمؤثرات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو طبيعية في بعض الحالات ، أو نتيجة لأسلوب التغريب الذي ساد العديد من المدن العربية وهو ما يطلق عليه البعض بالاستعمار الذاتي، ومن هنا غدت المدينة الإسلامية العربية اليوم في تقهقر مستمر وتراجع، وبدلا من الانسجام والأصالة والقيم حلت محلها تراكمات من التناقض والتكدس وضياع الشخصية ، تراكمات من الكثافات العالية وسيطرة السيارات وتنافر المباني وضياع الإنسان وفقدان وانعدام الأمن والصحة والجمال وسيطرة التلوث بكل مصادره .
    إن المدينة العربية بشكلها التراثي تعبر عن تراكم الأجيال السابقة لشعوب ومجتمعات ذات إمكانيات اقتصادية وتكنولوجية مختلفة عن الإمكانيات الحالية المتوفرة لها، وأنها الناتج النهائي لعملية التفاعل بين مجموعة من الثوابت العقائدية والمنطقية، والمتغيرات الزمانية والمكانية ، وهناك الكثير من المعايير والأسس والمبادئ التي تشكلت في إطارها المدينة العربية والتي يمكن إبرازها في تصور الفلاسفة والمفكرين الإسلاميين لهذا المفهوم من خلال تفهمهم للمصادر والأحكام العربية المستقاة من القران والسنة والتي يمكنها أن تلبي حاجة المجتمع وتتوافق مع بيئته المناخية والتي يمكن تطويعها للمتغيرات الحالية(2).
نشوء المدن
    يعد الموقع والنشاط الاقتصادي والصناعي وتوفر الأمن من بين أسباب نشوء المدن وأن تباينت هذه الأسباب قديما أو في مرحلة متأخرة ،علاوة على ذلك فان لعدد السكان دورا أساسيا في نمو المدن، كما يتأثر تخطيط المدن بالمعطيات الحضارية والطبيعية التي قد يفرضها واقع جديد للمدن وقد يكون هذا النمو أفقيا أو عموديا حسب احتياجات السكان ، وقد تحدث قفزات انفجارية خلال مراحل معينة من تطور المدن تؤدي إلى خلل ديموغرافي حيث تتشكل أحزمة من البيوت حول المدن تفتقر للتخطيط والخدمات وتمتد عشوائيا دون ضوابط وغالبا ما يحدث ذلك في الدول النامية بسبب الهجرة من الريف إلى المدن يرافقها مشاكل اجتماعية واقتصادية نتيجة الانتقال إلى بيئة جديدة مما تنشأ عنه أزمات سكانية وسكنية حيث يلعب الفساد الإداري دورا كبيرا وذلك بالتغاضي عن المخالفات حيث تصبح هذه المخالفات أمرا واقعا من الصعب إزالته (القاهرة – دمشق -بغداد) ونستنتج من المقارنة التي أجراها العالم – بول .ر . أهرليخ – في كتابه (القنبلة السكانية ) تضاعف عدد السكان ، حيث قدر أن عدد سكان الكرة الأرضية سيبلغ سنة (2025 ) 14 مليار نسمة وهذا النمو سيخلق مشاكل كثيرة تعجز الحكومات عن حلها وقد تبتلع المدن القرى المحيطة بها وتشكل كثافة سكانية كبيرة حيث تتشكل عقبة اجتماعية واقتصادية من الصعب تخطيها.
    لقد اختلفت مظاهر المدينة العربية ومورفولوجيتها عن سابقتها في الدول العربية قبل ظهور الإسلام  إذ كانت المدينة في المنطقة العربية على البحر المتوسط لمصر وبلاد الشام والخليج متأثرة بأنماط الدول الغازية من إغريق ورومان وبيزنطيين ، لذا اختلفت أنماط بناؤها بين عصر وآخر وفقاً للحاجات الاقتصادية بالدرجة الأولى بحيث تركزت المدن في طرق القوافل التجارية البرية منها ، كالقاهرة ودمشق ، أو البحرية كالإسكندرية وبيروت واليمن ، وكانت الأبنية في هذه المدن أشبه بالعشوائية ،  لان التركيب الداخلي لها يفتقر إلى التخطيط والتنسيق  .
   كانت الكثير من المدن تتشكل لأسباب اقتصادية بحتة كأن تكون عبارة عن محطة للاستراحة لمسافرين القوافل في مواقع ملائمة ، كالبر أو المرافئ، ومن ثم تبدأ في الكبر والتوسع حتى تأخذ أشكال المدينة إذا كان مناخها ملائماً مع توفر المياه والسهول المجاورة الصالحة للزراعة بما يكفي حاجات المقيمين وتوفر أراض للرعي والكلأ، ومع ذلك فإن هذه المدن كانت تزول وتندثر للأسباب التي ذكرتها آنفاً كما لأسباب أخرى منها ، تغيير مسار القوافل مما يدفع سكان هذه المدن المستحدثة إلى إلإنتقال إلى مواقع أخرى مع توقف مورد رزقهم والاستفادة من استراحة المسافرين عندهم وتبادل الأعمال التجارية .
    إن قاسما مشتركا يجمع المدن العربية سواء القديمة منها أو التي نشأت في العقود الأخيرة وهذا القاسم هو الجامع ، الذي غالبا ما يحتل مركز المدينة الأبرز حيث يشكل مركز استقطاب الحركة سواء كانت متعامدة أو شعاعيه وقد بدأ الاهتمام بتخطيط المدينة العربية لتلبي احتياجات السكان وذلك مع دخول ثورة النقل والمواصلات ومع الانفتاح الحضاري وبدأ نمطا جديدا من التخطيط يغير من بنية الشكل القديم للمدينة ، مما مكن البنائين من تلبية هذا الاحتياج ليقوموا بإزالة المباني القديمة ذات الطابع الكلاسيكي والتراثي ليحل مكانها نمط جديد من البناء ذات الطابع الغربي وبدأت المدن تأخذ شكلا عموديا ، ومع مرور الوقت بدا النظر في أهمية البناء التراثي وبرزت اتجاهات جديدة  للمحافظة عليه  كما ظهر العديد من المدافعين عن هذا النمط من البناء أمثال المهندس الإيطالي كميليوستي  الذي اهتم بالناحية الجمالية لهذه العمارة ،إلا أن بعض الدول تحولت فيها البيوت التي هي من الطراز المعماري القديم إلى مناطق جذب سياحي حيث رممت وأهلت لتكون مطاعم أو فنادق أو أما كن لسماع الموسيقى كما هو الحال في سوريا، كما سنت تشريعات وقوانين في معظم دول العالم لحماية هذا التراث ووضعه تحت الحماية(3).
المدينة العربية والإسلامية عبر التاريخ
    شيد العرب قبل الإسلام عددا من المدن والأبراج والحصون في شبه الجزيرة العربية وفي اليمن وحضرموت والحجاز وعمان ومكة ويثرب والطائف وصنعاء وكانت هذه المدن محاطة بأسوار منيعة واستخدموا الحجارة أو الطوب أو الخامات المجلوبة من مناطق أخرى مثل الرخام الملون كما بنوا السدود القريبة من المدن لري الأراضي الزراعية والشرب وعندما انتشر الإسلام أخذ تأسيس المدن وتخطيطها ينتشر مع موجة الفتوحات خاصة حول مجاري الأنهار كما في البصرة والكوفة والفسطاط وكانوا يختارون المناطق الصالحة من الناحية الطبوغرافية أو الاقتصادية ليشيدوا عليها مدنهم  مثل بغداد وسامراء التي بنيت على ضفتي نهر دجلة  ويبدو أن بعض المدن العربية لم يتم بناءها ارتجالا إذ أن هندسة المدن وبناء مرافقها كانا خاضعين للتنظيم فعندما بنيت مدينة البصرة تم تخطيطها على الأرض بوضع علامات واستخدم لذلك الكلس أو الجبس وأحيانا الرماد كما رسموا الخرائط والمصورات والزخارف على الورق أو الجلود والأقمشة , وغالبا ما يجد المخططون حلولا للمشاكل التي كانت تعترضهم بطرق فنية لها علاقة بالبناء والتصميم كما بحثوا قضية الماء وجريانه بواسطة الدواليب عبر أقنية وبنوا الأحواض ورفعوا المياه إلى القصور عبر أنابيب من الرصاص كما بنوا القناطر التي تسهل حركة المياه وتوزيعها.(4)
     لقد جاء الإسلام بمفاهيم جديدة حيث انتقل بتخطيط المدن من الفوضى إلى التنظيم على أسس اقتصادية واجتماعية وأخلاقية ودينية وسياسية ، وبدلاً من أن يكون قصر الحاكم هو المحور كما في الممالك القديمة فقد جعل الإسلام المسجد الجامع هو النواة في بناء المدينة العربية وأزال الفوارق الطبقية مع مبدأ المساواة بين البشر التي قام عليها فجعل الطرق والشوارع والممرات لكافة الناس يمشي عليها السيد والحاكم والعبد والفقير والغني ، بينما كانت المدن القديمة تقسم الطرق والممرات إلى ثلاثة أنواع للعامة والعبيد وطبقة النبلاء بما فيها الحاكم .
 ويعد المسجد النواة المحورية في تقسيم المدينة العربية لذا تفرعت منه الطرق الرئيسية والأسواق القائمة على التخصص المهني ،فخصصت الأسواق القريبة للمسجد للعطارين ، أما الطرق الأخرى المحيطة بالمسجد والمتفرعة عنه فقد تنوعت تجارتها ، فبعضها لباعة الذهب وأخرى لباعة الأقمشة أو لباعة المواد الغذائية والحبوب ، ومن ثم يليها باعة اللحوم والمجازر عند أطراف المدينة كذلك أعمال طرق الحديد والفخار والنجارة في خارج المدينة أيضا حتى لانبعث الروائح والأدخنة المؤذية أو الضجيج ، وبجوار مدخلها الرئيسي يقام سوقاً واسعاً يضم مختلف أنواع التجارة .
   وكانت المناطق المحيطة بالمسجد الجامع عبارة عن مساحات فارغة وذلك منعا للازدحام من أجل راحة الناس حيث يساعد الفراغ في تسهيل المرور ، مثلما كان السوق التجاري الكبير يتمتع بفضاء واسع من أجل تسهيل الأعمال التجارية وكسب المزيد من النور والهواء إلى جانب حرية التنقل وعرض البضائع وتسهيل نقلها (5).
   ومع التوسع والحروب تأثرت الفراغات في المدينة العربية وانكمشت كما في المدن الأوروبية في العصور الوسطى ، إذ اقتضت الأنظمة الدفاعية إلى ضرورة بناء الأسوار التي أضحت من الأساسيات في بناء المدن العربية والإسلامية ، إذ  شيدت الخنادق بعيداً عن مواقع السكان في فضاءات خارجية حيث مواقع الجنود والثكنات ومع تزايد السكان انتقل توسع البناء الأفقي في المدينة العربية إلى التوسع في البناء الرأسي مع تزايد السكان ضمن أسوار المدينة، واختلفت أساليب البناء في مساحات الغرف والفراغات للأسواق إلى ضيق في الشوارع الفرعية وتقلص الفراغات والإضاءة ، إلا أنها عوضت عن ذلك بالفناء الداخلي مع استغنائها عن فراغات الخارج ، ويلاحظ ذلك جلياً في الكثير من المدن العربية والإسلامية كالقاهرة ودمشق وبغداد والكوفة .
   والملاحظ أن أنماط المدن العربية الإسلامية قد استفادت من الطراز الهليني المنتشر في حوض البحر المتوسط والنمط الموجود جنوب شبه الجزيرة العربية مثل مدينة صنعاء وقد تمثل ذلك النمط في مكة والفسطاط كما استفادوا من الطراز البابلي في العمارة ويبدوا أن الشغف بالبناء قد ترافق مع الفتوحات والاختلاط بالشعوب التي دخلت الإسلام ولم يقتصر ذلك على الخلفاء والحكام بل إلى قادة الجند وبعض طبقات الناس، وكان للبيوت نظامها في التخطيط والبناء حسب الوجود الجغرافي لها.
    لقد نشأت الثقافة المعمارية الإسلامية على أيدي بنائين بسطاء ، تولوا عمليات الإنشاء، والإبداع بشكل تلقائي، اعتمد على الحدس وانتماء الاجتماعي والديني .


  طراز البناء في المدينة العربية والإسلامية
   لقد استوفى فن العمارة في مصر و بلاد الرافدين وفي الهند وفي الغرب حقَّه من الدراسة النظرية، وكانت مراجع تاريخ العمارة زاخرة بالنظريات التي تناولت هذه الفنون ، والتي درسها الاختصاصيون في العالم، وانتقلت إلينا مترجمة خالية من دراسة تنظيرية تحدد خصائص الفن المعماري الإسلامي، وكان لابد من سد هذا النقص من خلال مجموعة من المعطيات.
    إن تحديد الخصائص لم يكن سابقاً لتكون فن البناء الإسلامي، بل هو استدلال استخلص من شواهد الفن المعماري، إلا أن خاصية أساسية كانت وراء هذا الفن حددت سمته واسمه، تمثلت بالخاصية الدينية التي تجلت في الفكر الجمالي الإسلامي، الذي كون الفنون الإسلامية والعمارة(6).
    كانت علاقة العمارة بالدين الإسلامي من خلال عقيدة التوحيد كأساس عقائدي، ومن خلال التعاليم والمبادئ والتقاليد الإسلامية، وكان المسجد أول بيت أسس على التقوى يجمع المؤمنين تحت قبة واحدة خاشعين أمام عظمة الخالق سبحانه، يتدبرون سرّاً وعلانية، التقرب منه علماً ويقيناً،وكان شرط بناء المسجد يقوم على قواعد الصلاة، وانتقلت شروط الإيمان بالله ، إلى أشكال العمارة الأخرى تمثلت بالمدرسة والضريح والقصر والبيت، وكان المسجد يشيد وفق شروط  تساعد المصلي على أداء صلاته براحة، وعلى الاستماع إلى الخطيب بيسر منها،الاتصال بين المصلين وتراص الصفوف،وخلو صحن المسجد من الأعمدة التي تقطع صفوف المصلين تحقيق الاقتداء بعدم وجود حائل يمنع من تلاحق وتتابع صفوف المسلمين ، وجود جدار نافذ بين الصحن والحرم،وألا يكون الدخول إلى صحن المسجد مباشراً.(7)
   كما كان لبناء الحمامات شروط تحقق ضمان النظافة والبيئة الصحية ، علاوة على العلاج من بعض الأمراض ، وضمان الخدمات من قبل الإدارة ، وخزائن الأمانات، وتمثلت قواعد البناء برفع مستوى الحمام، وتنظيم مجاري المياه والإكثار من فتحات الإضاءة في القباب، ويشترط أن يقسم الحمام إلى ثلاثة أقسام، القسم البارد والرطب والساخن المجفف، لكي لا يتأثر المستحمون من تقلبات الجو المفاجئ(8).
    أما المشافي فقد حددت شروطها  وفق منهجية التصميم والبناء ، بينما حددت شروط العمران في المدينة على أساس استعمالات الأراضي وحقوق الارتفاق وحقوق استعمال الطرق، وتناولت المصادر الجَغْرافية وكتب الرحلات شروطاً تتعلق بالتخطيط الحضري، وبخاصة كتاب تاريخ مكة للأزرقي وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وكتاب المواعظ والاعتبار للمقريزي الذي استوفى التخطيط الحضري الكامل لمدينة القاهرة، كما تضمن الكتاب وصفاً للجوامع والحدائق والزوايا والحمامات والخانات، وحدد مواقعها ضمن مخطط القاهرة، ويُعَدُّ كتاب المقريزي أهم مرجع لعلم التخطيط الحضري عامة و لوصف القاهرة خاصة تحديث فنون العمارة الإسلامية لفائدة ذوي الاختصاص في العالم الإسلامي وخارجه الأصالة والحداثة(9).
  لقد استطاعت العمارة الإسلامية أن تنتقل من بيوت الشعر في البوادي إلى الأكواخ في القرى، ثم إلى المباني في المدن، منسجمة مع متطلبات الإنسان ومع تقاليده وبيئته، إلا أن هذا النمط انقطع فجأة عن التطور والنمو الصاعد بسبب احتياج طراز العمارة السهلة البسيطة، التي وفدت مع مستحدثات المدينة في الغرب، إلى جميع البلاد الإسلامية.(10) وأدخلت تقنيات إنشائية جديدة على واقع المدينة العربية، ممثلة بالإسمنت والحديد والزجاج في عمليات البناء والإكساء والزخرفة، وكان للكهرباء الدور الأكبر في تعديل مسيرة تطور العمارة التي اعتمدت كلياً على فوائد هذه الطاقة الجديدة، عند تمديد أسلاك الإنارة، أو بناء أبراج المصاعد أو تركيب أنابيب التدفئة والتهوية، حتى طغت هذه الإضافات على الوحدات السكنية،  وارتفعت تكاليف هذه التقنيات فأصبحت عبئاً على اقتصاد المدينة، وهو عبء مستمر لا يمكن الاستغناء عنه بل يصبح غيابه وبالاً على البناء وتعطيلاً لوظيفته،وتبقى مسألة التحديث في مرتبطة بالأصالة والقيم الدينية السامية والتراث.
   أما في أوربا فقد وصلت الحداثة في نمط بناء الوحدات السكنية حد التطرف في الانقطاع عن التقاليد وعن الطبيعة وعن الإنسان، حتى انقلبت المدينة الحديثة إلى مجموعة من الكتل الهندسية المجردة، وفقدت العمارة الخارجية طابَعها التقليدي الذي عرف في أوروبا منذ العصور الكلاسيكية إلى عصر النهضة والباروك والكلاسيكية المحدثة والعصر الفكتوري، وظهر اتجاه جديد ينادي بالعودة إلى الطابَع والشكل المعماري المنسجم مع البيئة والإنسان، وينادي بإنعاش الذاكرة التاريخية والقومية التي تحدد الهُوية المعمارية شكلاً وإبداعاً، بل عاد المعماريون إلى القول إن السكن خلية عمرانية اجتماعية، وليس هو منشأة في فراغ اجتماعي، وهو بذلك يحقق أهدافاً ثلاثة، اللقاء مع الآخرين، والتوافق معهم، وتحقيق السكينة والتفرد.
    إن انتشار الطراز الغربي كان بفعل المستعمر والانفتاح الاقتصادي، وكان تأثير الدعوة إلى الطراز الغربي فعالاً في نمط البناء إذ استقدم المسؤولون والأثرياء بنائين أجانب لإقامة وحدات سكنية لهم في جميع المدن الإسلامية، فظهر طراز أطلق عليه الطراز الكولونيالي، وهو طراز هجين ما زال بناءه قائما في الأحياء أو المدن الجديدة(11).
     ويبقى الإبداع في التصميم الخارجي والزخرفة الداخلية، من خصائص الفن الإسلامي الذي اتسم دائماً بالوحدة والتنوع والتطور، لقد برزت مجموعة متعاقبة من الطرز دلت على حرية الإبداع في عالم الفن الإسلامي، ولقد أطلق عليها تسميات مرتبطة بالعهود السياسية، كالطراز الأموي والعباسي والفاطمي والأندلسي، والمغولي والصفوي والسلجوقي والعثماني، وهي طرز إبداعية، وليست أنظمة ثابتة ، كما في الفن الكلاسيكي الإغريقي والروماني بمعنى أن الفنان المزخرف يستطيع من منطلق مفهوم الفن الإسلامي، أن يبتكر أساليب جديدة ذات أبداع تضفي وضعا مميزا على شكل الدور والمؤسسات (12).
   إن السعي وراء تطوير التصميم الخارجي للبناء، يتطلب العودة إلى تاريخ هذا التصميم منذ بداية فن العمارة الإسلامي، للتعرف على ملامح التصميم في كل عصر، وبذلك يمكن رصد التحولات التي تمت عبر العصور وبمختلف المدن، ضمن نطاق الوحدة الجمالية التي يتمتع بها الفن الإسلامي، وكانت التصاميم الوحدات السكنية في المدن العربية الإسلامية مستوحاة من التصاميم التي كانت سائدة في البلاد الإسلامية والتي كانت تمثل الطراز المستوحى من الدين الحنيف، إذ لم يكن العرب المسلمون الفاتحون قد حملوا معهم أسساً لعمارة إسلامية، بل هو الفكر الإسلامي الذي نما وانتشر بين الناس بعد قرن من الزمن، فكان أساساً لمفهوم معماري جديد، سار حثيثاً في مضمار الإبداع والتنوع، ورافق تطور الفكر الإسلامي ظهور فكر جمالي تمثل في دراسات إخوان الصفا والجاحظ والتوحيدي وابن خلدون وغيرهم، وفي المشرق الإسلامي كان الشاه أكبر المغولي وأعقابه قد اشتركوا في دعم تطور الفكر الجمالي والإبداع المعماري الذي تميزت به المدن الإسلامية.(13)
العوامل المؤثرة على تخطيط المدينة العربية الإسلامية:
   من أهم العوامل التي أثرت على تخطيط المدينة العربية الإسلامية هي :
العامل الجغرافي
     خططت المدينة لتراعي ظروف طبيعة موقعها في الأراضي الصحراوية في مناطق ذات مناخ حار، فنشأت المدن مغلقة تتقارب بيوتها وتضيق شوارعها للحصول على أكبر كمية من الظلال والحفاظ على هواء بارد داخل الطرق والممرات ، وقد كونت الشوارع والممرات العصب الرئيسي حيث اعتبرت مناطق تجمع الهواء والنشاط والترفيه(14).
الدين والتقاليد العربية
    أثر الدين وأماكن العبادات في تخطيط المدن حيث برزت مناطق العبادة والتي تشمل المسجد والمنطقة المفتوحة أمامه كفراغات رئيسية داخل المدن وأصبحت مراكز تجميع السكان،كما صارت مناطق العبادة علامات مميزة لمعظم المدن العربية . كما كان للتقاليد العربية الإسلامية أثرها في تكوين المدينة من حيث توزيع المناطق السكنية وتكوين المجاورات المستقلة التي ترتبط بشبكة من الطرق اغلبها مسدودة النهايات لتحقيق الخصوصية والتقارب والتآلف.
الظروف السياسية:
     أثرت الظروف السياسية على تكوين المدن، حيث أن كثرة الفتوحات لمدن جديدة،والخلافات المنازعات بين الحكام والولاة والأمراء المتتابعين أدى إلى أن كل حاكم يطمح في تحقيق طابع معين خلال فترة حكمة وما تابع ذلك من تنشيط لحركة العمران والبناء،مثلا بنيت بغداد بناء على طلب من الخليفة المنصور عام 762 وفق نظام دائري قطره2638 م تقريبا وتم تحديده رسما على الأرض وقد بني الجامع وقصر الخليفة في الوسط وشيدت منازل كبار الضباط وموظفي الدولة خلف ساحة الاستعراض , وعلى الضفة الشرقية للنهر بنيت الثكنات .وبنيت الأسواق في أماكن محددة فرضتها نوعية التجارة , والخانات والمطاعم وتوسعت المدينة تباعا أما الشوارع الرئيسية فقد كانت رحبة وبعرض لا يقل عن الأربعين زراعا ومن المسجد الجامع وقصر الخليفة تفرعت الطرق الرئيسية با لاتجاهات الأربعة أما الطرق الفرعية فقد تشعبت لتخدم سكن العامة أنشى في كل جانب من جوانب المدينة عدة أبواب تعلوها أبراج عالية يحيط بها سور عريض تتلوه قناة مائية تلتف حوله وعلى الرغم من أن الخليفة قد هجر المدينة إلا أنها نمت وأصبحت مركزا تجاريا واقتصاديا وثقافيا وأصبحت من أكبر مدن العالم وصار سوقها التجاري من أكبر الأسواق في العالم.
الحالة الاقتصادية:
   نشأت المدن لتؤدي وظائف كان معظمها النشاط التجاري والصناعات الحرفية التي تعكس ظروف وعادات وطبائع أهل هذه المدن، وقد انفصلت مناطق الأنشطة والخدمات عن مناطق الإسكان وأصبحت هذه الأنشطة تمتد على امتداد المدينة وتشكل عصب رئيسي للحركة داخل المدن تتفرع منها حركة ثانوية تجمع عليها مناطق الإسكان العام.
   وفي المدينة تجمع الأعداد الكبيرة من العمال والحرفيين من مختلف الأجناس والأديان ويسكنون بمساكن متقاربة، ويتصلون بعضهم ببعض في حياتهم اليومية في الأسواق تجمعهم روابط اقتصادية واجتماعية وفكرية وثقافية وظروف حياتية متقاربة، كل في مجال تخصصه، وهذا ما ساعد على قيام نظام الحرف والطوائف والتكتلات الصناعية التي عرفت بأسماء متعددة، مثل الأصناف، وأرباب الصنائع وأصحاب المهن أو أهل الحرف، وهي تعابير تعطي معنى لأبناء الصنعة الواحدة وفي المدينة العربية الإسلامية ونموها وتطورها وتقدمها وتوسع الحياة الاقتصادية وتعقدها، وازداد الشعور المشترك بين أصحاب كل حرفة، وصار لهم فيها نظام أو عرف يكفل لهم الحماية من المنافسة ويرفع من مستواهم المادي والفني، ويعمل على تدريب الأبناء الجدد أو المبتدئين في الصنعة، وتهيئتهم التهيئة المناسبة واللازمة للمهنة، لكي يكون إنتاجهم في غاية الكمال، وبذلك حدث التطور في المدينة وترقى المدينة بإنتاج حرفيها وتصبح مركز جلب للحرفيين المهرة،وتقدمت الصناعات الحرفية بتوالي الأجيال، ووفرة المواد الخام الزراعية والمعدنية، وتقدم العمران البشري في المدن الإسلامية غير أن الصناعات استمرت تعتمد على الصناعات اليدوية، وبقيت السلع تصنع في الورش وفي البيوت أو في المحال والحوانيت، وكان العامل يبدي في هذه الورش الصناعية مهارة وخبرة وصبراً مما أعطى الإنتاج على الرغم من قلته صفة الإتقان أثرت الحالة الاقتصادية للسكان على توزيع عناصر المدينة وتكوينها، فتلاحظ أن أغلب السكان ذوي الدخول الكبيرة كالتجار ثم الأمراء وقادة الجيش تقع مساكنهم على محاور الحركة الرئيسية وتقترب من مناطق الخدمات والأنشطة ثم تأتي خلفها مناطق إسكان العامة(15).
    كان توزيع الأسواق في المدينة العربية يعتمد على مبدأ دفع الضرر التي تحدثه سلعاً مضادة تفسد العرض السلعة وتتسبب أيضا في أذى مرتادي هذه الأسواق .
    وغالبا ما يتدرج التصنيف من الساحة الواسعة التي تحيط بالمسجد الجامع في قلب المدينة إلى أطراف شوارعها الرئيسية المنتهية إلى مداخلها وبواباتها وفق نظام معين يقوم على التناسب بين السلع والتجارة والحرف والمتعاملين في داخل المدينة أو خارجها ، ومواصفات كل تجارة من حيث الرغبة في وضعها قرب قلب المدينة ، حيث تزداد كثافة المرور في اتجاه المسجد ، أو في أطراف شوارع المدينة عند بواباتها ،إذ تقل درجة الكثافة  لما قد تسببه من أذى للمارة .
     هذا التصنيف أدى إلى إيجاد نوع من الترابط بين تجار وصناع السلعة الواحدة يمكن رواد السوق من تسهيل شراء احتياجاتهم دون عناء ، كما يسهل مراقبة الأسواق وتخفيف كثافة المرور في شوارعها ما يساعد على الوصول مباشرة إلى السوق المتخصصة في سلعة معينة ،كما أن هذا التصنيف راعى أن تكون السلع الضخمة الحجم الثقيلة الوزن عند أطراف المدينة حتى لا يسبب نقلها في تكثيف حركة المرور وعرقلتها ، لذا فأن بناء المدينة العربية كان مدروساً بدقة يراعي راحة الإنسان وحاجاته على أسس أخلاقية واجتماعية واقتصادية .
النواحي الإنشائية:
     كان للأسلوب البدائي في البناء أثره في ضرورة استخدام ما هو متاح من مواد بناء حول المدن، فاستخدمت الحجارة في عمليات البناء بالإضافة إلى الأخشاب، فجاءت مباني المدن محدودة الارتفاع مما كان له تأثير واضح في شكل المدن وأعطى تكوين موحد لعناصر المدينة  وصبغها بطابع خاص مميز.
 وسائل النقل:
   أثرت وسائل النقل المستخدمة على تخطيط المدينة حيث تتناسب الطرق والممرات مع استعمالاتها، فالمحاور الرئيسية تتناسب مع وسائل النقل البدائية، أما محاور الحركة الجانبية فتتناسب مع مناطق الإسكان حيث الشوارع والأزقة الضيقة التي لا تسمح بدخول وسائل النقل ، ذات الحجم الكبير .
النسيج العمراني:
   خططت بعض المدن لتكون دفاعية وقسمت كقطاعات للجند، وهذه المدن إما اندثرت كمدينة سامراء أو نمت بعد البناء كمدينة البصرة في العراق وأخذت الطابع المميز للمدن الإسلامية التي نمت وتطورت مع النمو والتطور الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع فكانت وحدة النسيج خطة أعطت المدينة طابعها، حيث تحوي الخطة على مسجد وساحة فسيحة أمام المسجد أو حوله وتقام فيها مقابر لساكنيها وحمامات وسوق صغير.
    لقد نشأت المدن العربية الإسلامية مخططة بشوارع رئيسية محورية ،متأثرة بالحضارات القديمة وسرعان ما تحولت إلى ذلك النسيج العضوي المتضام كمدينة دمشق، وترجع أسباب هذا النمو العضوي إلى ارتباطه أساسا بنشأة العمران حول الحيز الخاص في قلب البيت الأول الذي يصبح مركزا لنمو بيوت الأبناء والأحفاد في ترابط تلقائي يستهدف احتواء أكبر حيز من الفراغ المحيط داخل الحيز الخاص، حيث أن الدرب أو الزقاق سبيل الوصول للباب وما أمام الباب من فراغ الطريق فناء كأنه ملكية خاصة بحيث لا يقطع الطريق (16).

 العناصر العمرانية:
     تشترك المدن العربية في عامل حضاري مهم وهو الدين الإسلامي، وعليه فلا نستطيع تحديد مفهوم الحضارة في المدن العربية بدون ربط الحضارة العربية بالحضارة الإسلامية، وذلك لان الحضارة الإسلامية حددت الأشكال الرئيسية لمعالم المدينة العربية الإسلامية، حيث أنها أبرزت المساجد وحددت نوعية الساحات التي تحيط بها وبلورت نوعية الاتصال بين الجنسين وكذلك حددت نوعية تصرف المجتمع بالنسبة إلى التعاليم الدينية وهذا بدوره شكل الأبعاد الفيزيائية سواء للمسجد أو المسكن أو المدينة ولقد تميزت المدينة العربية في العصور الإسلامية المزدهرة  رغم اختلاف مواقعها ومناخها ووظائفها وثقافات أهلها وأشكال مبانيها  بتوجهها إلى الداخل من خلال عناصرها العمرانية المختلفة التي تكاد تكون ثابتة، وقد كانت هذه العناصر تعبير فطريا صادقا عن المجتمع واحتياجاته وهي المسجد، والخدمات العامة، والمناطق السكنية، وشبكة الشوارع(17).
الخدمات العامة:
    من أهم السمات التخطيطية التي تميزت بها الخدمات العامة في المدينة العربية الإسلامية هي كالآتي:
المسجد ودور الإمارة في وسط المدينة حيث في وسط المدينة شارع رئيسي وربطه ما بالمباني العامة وقربهما من المناطق السكنية تأكيدا للتكامل بينهما وبين المجتمع.
ارتباط المبنى الديني بكافة الأنشطة الرئيسية التعليمية والثقافية والصحية والتجارية لما يحققه من كونه مركز جذب رئيسي وعمله كوحدة اجتماعية ودينية.
استخدام نظرية التجمع النوعي التخصصي التجاري والحرفي وفكرة الأسواق المغطاة مع توفير الفراغات المفتوحة تفاديا للملل وتعبير عن نوعية التجمع التجاري.
عدم وجود أماكن ترفيه بالمدينة عدا ميادين الفروسية وتنتشر المسطحات المائية والمناطق الخضراء بالمدينة على مستويات فهنالك الحدائق العامة والحدائق الخاصة داخل البيوت(18).
المناطق السكنية:
      اتسمت المناطق السكنية بالمدينة العربية بتطبيق المعايير التخطيطية الآتية :
استخدام الوحدة التخطيطية السكنية المتكاملة بخدماتها (الخطة السكنية).
تكتل المباني وتلاصقها حيث تعمل كحاجز ضد الحرارة كما أن هذا التلاصق يقوى ويسهل الاتصال بين العائلات ويؤكد قيمة الجوار والترابط وهى أمور حث عليها الإسلام.
الخلخلة في النسيج الحضري العام باستخدام الأفنية الداخلية المفتوحة والساحات العامة التي تختزن الهواء الرطب ليلا فتكون رطبة أثناء النهار ،وتعمل الأفنية الداخلية على الاحتفاظ بالهواء البارد أكبر فترة ممكنة أثناء النهار ونتيجة للتعرض لأشعة الشمس المباشرة تظهر الفروق في مناطق الضغط التي تعمل على تحريك الهواء داخل الكتلة العمرانية.
يمثل الفناء الداخلي نواه اجتماعية لتقوية روابط الأسرة (وهنا يظهر الدور الاجتماعي والمناخي الذي يقوم به الفناء بالمنزل ولذلك لابد من إيجاد البديل له في العمارة الحديثة).
شبكة الشوارع
    أتساع الشوارع تحدده الضرورة والحاجة لها، فقد حدد الشارع العام في مدينة البصرة بستين ذراعا وفى مدينة بغداد  بخمسين ذراعا والشوارع الفرعية بعشرين ذراعا والحد الأدنى من الطرقات بسبعة أذرع
ومن أهم الملامح التخطيطية التي تميزت بها الشوارع في المدينة العربية الإسلامية القديمة هي :
استخدام الشوارع الضيقة غير المستقيمة لتوفير مساحات مظللة ولمنع الرياح  وتأكيد جوار الترابط.
تدرج الشوارع وتكاملها.
التقسيم إلى مقاطع بصرية والرؤية عن بعد وما يحققه ذلك من تلافى الإحساس بالملل.
انتقال المحاور البصرية يحقق متعة بصرية بالإضافة إلى أنها تساعد السائر على تحديد اتجاهه، ولا يتم ذلك بواسطة المحورية.
الظهور والوضوح والرؤية عن بعد.
الاستمرارية والإحساس بالحركة وذلك عن طريق استمرار الشخصية الوظيفية الواحدة وكذلك الطابع الواحد.
استخدام الشوارع المسدودة.
الطرق القادمة من وسط المدينة تنتهي بطريق بدخل السور ويواز يه ( ويقع حول السور خندق للأغراض الدفاعية).
الوضع الحالي للعمران في المدينة العربية والعوامل المؤثرة في ذلك:
     رغم أن المدن الأوروبية الحديثة التي تماثلت بها المدن العربية في المنحى والتصميم في استحداث الفراغات الواسعة التي تميزت بها الشوارع العريضة التي لم تكن لتحدث لولا تطور المركبات ووسائل النقل ، إذ لم تكن الشوارع الأوروبية بأفضل من الشوارع العربية في الفضاء والمساحات إلا بسبب الحاجات العسكرية منذ زمن الإغريقيين حيث كان هناك شارع رئيسي واسع للاستعراضات العسكرية ، وبالتالي كانت تقسم الشوارع إلى مربعات متساوية تقريباً ، بينما في المدن الرومانية كانت هناك دائماً شارعان رئيسيان متعامدان وفقاً لمتطلبات الاستعراض العسكري  وهو مايمكن رؤيته في مدينة صبراته في ليبيا(19)  والموضحة بالشكل أدناه




                            الرقعة الحضرية لمدينة صبراتة خلال المرحلة الرومانية
P. M . kenrick . Excavations at Sabratha (1948 – 1951 ) Society For The promotion of Roman                       
Studies, Journal of Roman studies, mono Graph . No .2. 1986 , p. 78                                                                 

      أما باقي المدينة فكانت السلطات تكتفي بتقسيم الأحياء ثم تترك توزيع المباني وفقاً لحاجات السكان - مع وجود التمييز الطبقي بالطبع في طرق المرور ومواقع الأحياء - وبذلك ورثت أوروبا مع بدء نهضتها المترافق مع عصر الآلة أسلوب بناء الطرق واستحداث والفراغات للحضارات التي سبقتها إلا أن منازل العامة كان ينقصها الفراغ والضوء الذي تميزت به البيوت العربية ، لذا أضحت مدن العالم جميعها مع حاجتها إلى تطوير وسائل نقلها مضطرة إلى استحداث فراغات واسعة في طرقها وساحاتها لزوم تسهيل مرور وسائل النقل ومحطاتها وأماكن.
     يعتبر القرن التاسع عشر بداية التحول السلبي الكبير في العمران في المنطقة الإسلامية ، حيث كانت المؤثرات ذات قوة كبيرة ولفترات طويلة ، وأن الوضع المتردي الذي وصلت إليه المدينة العربية يرجع إلى عوامل ومؤثرات واكبت تطور المدينة العربية ونموها على مر السنين وأهمها الثورة الصناعية والمؤثرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
    وكانت للثورة الصناعية في أوربا في منتصف القرن الثامن عشر آثارا بالغة الأهمية، إذ أصبح المخترعون ومهندسو الآلات والمهندسون الإنشائيون محط الرعاية والاهتمام، فقد عهد إلى الإنشائيين
تصميم المباني اللازمة للصناعة من مصانع ومحطات السكك الحديدية وغيرها، نتيجة للتطور الهائل في الصناعة واحتياجات البشرية من فراغات ذات نوعيات تلائم الاحتياجات الجديدة للصناعة، ومنذ ذلك الوقت حدث انفصال بين العمارة والتكنولوجيا وبين العمارة والإنشاء وصارت كل منهما مهنة مستقلة، فظهرت أنماط جديدة من البناء في مختلف أوربا وكذلك بالنسبة للتخطيط حيث شهدت المدن هجرات متصلة للمزارعين للعمل في المصانع الجديدة مما أدى إلى ظهور مناطق البناء العشوائي ، وفى ظل الانفتاح على أوربا والاتصال بها الذي بدا في بعض مناطق الدولة الإسلامية منذ القرن السابع عشر بدأ معه التأثر بعمارة وتخطيط أوربا مع ملاحظة أنه كانت هناك مناطق كان التأثير فيها واضحا .
    لقد لعبت القوانين التخطيطية، التي وضعت أغلبها في فترات السيطرة الاستعمارية على الدول العربية، والتي لم تستند في صياغتها ووصفها على أسس علمية وحضارية، دوراً كبيراً في أن تصل مدننا الحالية إلى أجزاء متنافرة، تحكمها سنة التطور والحاجة الآنية غير المدروسة لمتطلبات الساكنين وحركة المرور، دون الأخذ بنظر الاعتبار الصورة النهائية التي ستتكون لها، ولا إلى البيئة الحضرية المتدهورة الناتجة عنها، والتي تم تطوير بعض الأجزاء منها وبقيت الكثير منها من مناطق المدينة وخاصة المراكز القديمة للمدن العربية العريقة بمستوى خدمي وحضاري وعمراني متدني، مما أدى إلى تسارع اندثار هذه الأنسجة الحضرية ذات المدلول الحضاري والتاريخي الكبير وافتقاد هذه الدن الى شخصيتها وهويتها القومية، في وقت لم تكفل هذه القوانين والأنظمة للمناطق الحديثة الإنشاء، سمة التخطيط والبناء لإعطاء الشخصية الخصوصية الحضارية لها، والمتتبع للخطوات التنفيذية لتخطيط مثل هذه المناطق يلاحظ أنه بمجرد شق الطرق الرئيسة المحيطة بمنطقة ما، تبدأ عملية بناء العمارات على جوانب هذه الطرق حيث ترتفع أسعار الأراضي فجأة نتيجة لقوانين التنظيم العمراني التي تساعد على زيادة استغلال الأراضي وارتفاعات المباني على الطرق العريضة والتي دائماً ما تكون هي الطرق الرئيسة على أطراف المناطق العمرانية، ومع استمرار عملية البناء على جوانب هذه الطرق تبدأ الأدوار الأرضية منها تتحول إلى محال تجارية تجذب إليها حركة نشاط السكان في المنطقة وتظهر الحاجة إلى مواقف للسيارات تخدم هذه المحال(20).
    ومع الوقت تزداد الحاجة وتتفاقم المشكلة، ويرجع المسؤولون يبحثون عن مرحلة أخرى من مراحل التوسع للشوارع وهكذا، ومع التنمية السريعة لأطراف المناطق على طول الشوارع الرئيسة يلاحظ أن قلب المنطقة لا يتحرك بنفس معدل السرعة التي تنمو بها الأطراف، الأمر الذي يتسبب في خلل عضوي للتنمية العمرانية للمنطقة يظهر في توزيع حركة السكان على أطراف المنطقة بدلاً من تركيزها في مركزها ، وتصبح المباني على الشوارع الرئيسة واجهات تخفي خلفها المناطق المتدهورة، لقد توارث المخططون هذا الاتجاه الذي ظهر في مدن الغرب حيث تضطرهم الحاجة إلى ترك قلب المنطقة مفتوحاً يضم السوق التجاري والمدرسة والحدائق وملاعب الأطفال وهو ما يتناسب فعلاً مع البيئة والسلوك الاجتماعي لسكان هذه المدن ولا يتناسب قطعاً مع البيئة أو السلوك الاجتماعي لسكان المدينة العربية والإسلامية، الأمر الذي يتطلب نظرية أخرى مناسبة تطبق فيها القيم التخطيطية للمدينة الإسلامية وتستوعب حركة السيارات داخل المناطق التخطيطية مع فصلها عن حركة المشاة، وفي هذه الحالة يبدأ المخطط في المحافظة على المباني ذات القيمة الثقافية والحضارية أو المباني ذات القيمة الاقتصادية ويحدد الاتجاهات الرئيسة لشبكات الطرق القائمة كدليل للاتجاهات العامة لشبكة الطرق في المخطط الجديد.
     وفي ضوء التخطيط العام للمدينة وتحديد نوع التنمية الحضرية في كل منطقة يمكن تحديد المكونات التخطيطية الأساسية لكل منطقة من ناحية عدد السكان القائمين أو المنتفعين وكثافة البناء ونوعية استعمالات الأراضي.
     ومن التحليل السابق للعناصر التخطيطية والمعمارية للمدينة العربية القديمة يمكن إفساح الطريق أمام المخطط المعاصر في تطبيق هذه القيم وهذه العناصر في المخططات الحديثة، مع إعطاء الاعتبار الكامل للوسائل التكنولوجية واستعمالها بحيث لا يتعارض ذلك مع القيم الحضارية للمدينة تأكيداً لمبدأ المعاصرة مع الاستمرار الحضاري في بناء المدن، وهنا يكمن الفكر الأساسي للتخطيط الحديث فإذا كان الهيكل العام للمدينة العربية القديمة قد تشكل على أساس المقياس الإنساني المتولد عن الحركة الطبيعية للإنسان ولما كان الهيكل العام للمدينة المعاصرة يتأثر أساساً بالمقياس المتولد عن الحركة الآلية المتغيرة، فإن الفكر الأساسي للتخطيط الحديث يهدف إلى إيجاد الحل المناسب بين كلا المقياسين، وربط عناصر الزمن والفراغ والمكان في التشكيل العام للمدينة، لينتقل البحث عن إظهار القيم الحضارية في تخطيط المناطق الجديدة بعد ذلك، وتحديد متطلبات المجتمع الجديد وبلورتها في استعمالات الأراضي التي يمكن توزيعها التوزيع المناسب في التخطيط الحديث، مع إيجاد الروابط التي تحكم العلاقات الحسية بين هذه الاستعمالات.
العوامل السياسية:
    العديد من البلدان العربية نشأ وفق ثقافة البلدان المستعمرة التي تولت إدارة وتنظيم شؤونه حتى كان تأثيرها عليه إلى أبعد الحدود في كافة المجالات، بحيث أصبح المواطن العربي المسئول في أغلب الأحيان مقلدا، نتيجة للثقافة والتعليم اللذين تلقاهما على يديها خاصة في المجالات الفنية والهندسية بالإضافة إلى الإدارة والتوجيه المباشر الذي كان يتولاه البلد الكبير ولم يعد والحالة هذه المهندس العربي مقيدا بالأمور التي يفرضها عليه واقع بلده التاريخي ومناخه وتكوينه وأسلوب معيشة الناس وتحركاتهم، بل همه الأكبر تقليد ما كان يراه أو استهوى نظره في الخارج من منشات ومقومات معمارية خاصة كانت أو عامة.

العوامل الاجتماعية:
     كان لها دورا في اختلاف الشخصية للمدينة العربية، كل حسب ظروفها ومحيطها واتصالاتها المباشرة وغير المباشرة بالعالم الخارجي، فمنها من احتك بالحضارات الغربية وظل على اتصال دائم بها بسبب موقعها الجغرافي حتى تقمصت هذه الحضارة وتأصلت بها وأصبحت نسخة طبق الأصل عنها، فظهرت بها المباني السكنية العالية والأبراج العمرانية التجارية والمقاهي الغربية الطابع بتنظيمها وأسلوب خدمتها وتكوينها، إلى غير ذلك من المعالم، بينما حافظت المدن العام للمدينة العربية الإسلامية:
العوامل الصناعية:
     كانت للثورة الصناعية في أوربا في منتصف القرن الثامن عشر آثارا بالغة الأهمية، إذ أصبح المخترعون ومهندسو الآلات والمهندسون الإنشائيون محط الرعاية والاهتمام، فقد عهد إلى الإنشائيين
 تصميم المباني اللازمة للصناعة من مصانع ومحطات السكك الحديدية وغيرها، نتيجة للتطور الهائل في الصناعة واحتياجات البشرية من فراغات ذات نوعيات تلائم الاحتياجات الجديدة للصناعة، ومنذ ذلك الوقت حدث انفصال بين العمارة والتكنولوجيا وبين العمارة والإنشاء وصارت كل منهما مهنة مستقلة، فظهرت أنماط جديدة في العمارة في مختلف أوربا وكذلك بالنسبة للتخطيط حيث شهدت المدن هجرات متصلة للمزارعين للعمل في المصانع الجديدة مما أدى إلى ظهور مناطق البناء العشوائي،وفى ظل الانفتاح على أوربا والاتصال بها الذي بدا في بعض مناطق الدولة الإسلامية منذ القرن السابع عشر بدأ معه التأثر بعمارة وتخطيط أوربا مع ملاحظة أنه كانت هناك مناطق كان التأثير فيها واضحا وتعتبر مصر أكثر المناطق تأثيرا وذلك لأنها كانت مطمع الدول الاستعمارية لموقعها وثرواتها فاتجهوا إليها قبل باقي أنحاء الدول الإسلامية،وهناك مناطق أخرى لم تخضع للاستعمار وكان اتصالها بأوربا ضعيف فظلت كما هي تحتفظ بطابعها وتراثها التخطيطي كما حدث في شبه الجزيرة العربية.
العوامل الاقتصادية:
    لها دوراً في اختلاف وجوه المدينة العربية، خصوصا المدن التي عثر فيها على البترول فأخذت طابعا أبعدها عن الوجود العربي لقدرتها المادية على استجلاب الخبراء من كافة أنحاء العالم ومن ثم توسيع شوارعها إلى درجة لا تنسجم في بعض الأحيان مع تكوينها العام وإنشاء أبنية لا تتمشى والواقع والحاجة .
    لذا فأن معظم المدن العربية ليست لها شخصية أو تكوين موحد وهذا ما يؤسف له حقا في هذا العصر بالذات حتى أضحى الفرق مرئيا للإنسان العادي، يمكن ملاحظته والتحقق منه خلال تجواله أو طيرانه من مدينة إلى أخرى أو من خلال نظرة إلى صور مختلفة، وكأنه ينتقل ما بين القارات الخمس، فمن المدينة الأمريكية الطابع مثل بيروت إلى الأوربية مثل القاهرة إلى الأسيوية الطابع مثل عمان باستثناء روابط بسيطة تربط فيما بينها كالجوامع بمآذنها الشامخة والساحات الفسيحة أمامها، مع بعض الأحياء التاريخية القديمة التي ما زالت تتمتع بالمظاهر العربية الأصيلة.
 
أزمة المدينة العربية بالوقت الحاضر :
    لقد مثلت المدينة كموضوع دراسة في العلوم الاجتماعية شيئا أكبر من تخطيطها الفيزيقي وتنظيمها الخدماتي (تعليمية، صحية ، تجارية، ترفيهية ، وغيرها) وهي بناء أو تركيب معقد من العوامل القيمية والثقافية، إنها وكما يقول روبرت بارك :" نسق من عادات وتقاليد واتجاهات ومواقف منظمة ومشاعر متلازمة مع هذه العادات تتناقل عبر هذه التقاليد "والمدن كانت وستظل المراكز الرئيسية للعلم  والإنتاج والفنون والثقافة، وباختصار للحضارة، وبالنسبة للعالم العربي فقد شهدت مدنه اتساعا كبيرا لم يسبق له مثيل، إذ أن نسبة سكان المدن ارتفعت من 27,7 % عام 1960 إلى 46،8% عام 1980، وهي نسبة آخذة في الارتفاع ، علاوة على ما سببته هجرة السكان من الريف إلى المدن إلى نشوء مصطلح   " ترييف المدن" ، أي إضفاء طابع الريف على المدن ، إذ تمركزت  العوائل المهاجرة في ضواحي المدن الكبرى في العالم العربي، هذه الضواحي التي تنقصها الخدمات حتى أن بعض المهاجرين قد احتلوا مقابر الأموات في مدينة القاهرة، ويقدر عدد الذين يعيشون في مقابر تلك المدافن القديمة مابين 250000  - 900000 نسمة ، إضافة إلى ذلك فان المدن العربية التي تضج بالنشاط تنتج في الوقت نفسه فرص الحصول على مغريات عديدة، فهذه المدن تمثل في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية البؤرة الديناميكية للحياة العربية وقطب المغناطيس القوي الذي يجتذب النازحين.(21)
    إن ازدحام السكان بات اليوم سمة عامة  في الحياة اليومية للمدن في  كافة أرجاء المنطقة، ويضطر أهل المدينة للتنافس سعيا وراء الحصول على موارد بعيدة المنال ، علاوة على اختناق الشوارع بحركة المرور التي تلوث الهواء والمشاكل الناتجة عن رداءة أنابيب المياه والمجاري، مع وجود بعض المشكلات الصحية في المدن العربية والمتمثلة بالاتي:
مياه الشرب : هناك سببان رئيسيان لأزمة المياه النقية يتعلقان بكمية المياه المتوفرة ونوعيتها ، الأول  النمو الحضري المتزايد وما يتمخض عن ذلك من تزايد في طلب المياه واستهلاكها، أما السبب الثاني فهو التلوث الذي صار يصيب جزءا من هذه المياه من مخلفات السكان والصناعة.
  الصرف الصحي : تتراوح نظم الصرف الصحي في المدن العربية من الشبكات العامة الحديثة للصرف إلى أحواض الترسيب والآبار في كل بيت وهذه كلها تحتاج إلى معايير تحكم أداءها، مثلا آبار المياه الثقيلة في المنازل تلزمها مواصفات دقيقة في التربة الحجرية الصلبة والتربة الرملية القابلة للانهيار، وفي المناطق ذات المستوى العالي للمياه الأرضية والمناطق التي تزداد فيها أخطار  تلوث المياه الجوفية المجاورة. 
النفايات : ازدادت في عصرنا الحالي مخلفات المناطق المختلفة في المدينة (سكنية- تجارية- صناعية- خدمية ) حتى أضحى تراكمها يهدد صحة البيئة والمواطنين، وأصبحت تلال القمامة منظرا مألوفا في كثير من المدن العربية، ومصدرا للأمراض، خصوصا للأطفال ، ويكون أثرها أبلغ ضررا في المناطق الرطبة، وفي مواسم الأمطار التي تساعد على تجمع الذباب والبعوض والبكتريا والفطريات والقوارض، كما تزيد مخلفات المناطق الصناعية باحتوائها  على الأبخرة والمواد الكيميائية الضارة بالتربة والهواء ومصادر المياه.
  تصريف المياه السطحية :  يؤدي تجمع المياه السطحية وركودها  في كثير من المدن العربية إلى مشكلة صحية وبيئية كبرى، خصوصا في الأحياء الفقيرة وفي مناطق السكن العشوائي التي لا تكون أرضها أصلا صالحة للبناء عليها والسكن، والمشكلة لا تكون فقط من مياه الأمطار والسيول،  بل في رداءة شبكة المجاري  وما ينتج عنها من تسربات للمياه ، بل أسوأ من ذلك مجاري التصريف الصحي الطافحة بسبب الانسداد  أو ضعف طاقة المحطات على السحب ، فتظهر بذلك برك المياه الآسنة والجداول المليئة كخط رئيسي ولاسيما حين تختلط مياهها بالنفايات المنزلية والصناعية(22).
    الصناعة وآثارها : شهدت المدن العربية بدايات التصنيع بشكل ملحوظ ، ومع أهمية التصنيع وحتميته إلا انه يساهم في تلوث البيئة ، كتلوث الهواء ، الماء ، التربة ، فإلى جانب تلوث البيئة بالضوضاء والحرارة، هناك تلوث للجو في دول النفط ينتج عن عمليات استخراج النفط وتكريره، وحين تكون مستودعات النفط تحت الماء يحدث بالإضافة إلى ذلك تلوث المياه، أما مخلفات عمليات التصنيع فكثيرا ما تجد طريقها إلى الأراضي المجاورة.
    إن مشكلة المدينة العربية تكمن في غياب التخطيط العمراني السليم ، ويمكن القول بأن " التخطيط العمراني ليس تقسيما لشوارع تشيد على جوانبها الأبنية بل أن  التخطيط العمراني مسألة دقيقة وحساسة، وعليه أن يأخذ بالاعتبار عملية التوفيق بين الجانب الوظيفي والجانب الجمالي والجانب الاقتصادي، فعلى مدى نجاح التوفيق بين العناصر السابقة المتناقضة يمكن تقويم المخطط العمراني إيجابا أو سلبا، وبالاستناد إلى تعريف المدينة  " المكان الذي يعيش فيه الإنسان ويعمل"، يلاحظ أن مهمة مخطط المدينة تعتمد بشكل رئيسي في تأمين المسكن وتلبية احتياجات السكان، وفي هذا الصدد يتوجب على مخطط المدينة أن يؤمن للسكان جميع الخدمات الضرورية في إطار مرحلة التطور ، كإقامة شبكة الصرف الصحي والمياه والكهرباء وتامين المجاري ورصف الطرقات وإنشاء المدارس والمستوصفات ومراكز الرعاية الصحية وغيرها .
الخاتمة
      يعد البعد التاريخي للمدن على قدر كبير من الأهمية ، فهو أساس للدراسة الأصولية  إذ يصعب فهم المدينة المعاصرة في بعض الأحيان بدونه، فالدراسة التاريخية للمدينة تساهم في التعرف على محاور امتدادها عبر الفترات المختلفة ، ومقدار النمو الحضري الذي حققته خلالها ، والوقوف على الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تضافرت في إعطاء المدينة وضعها الحضري في الوقت الحاضر ، ومن ثم توقع الزيادة المستقبلية لمساحتها الحضرية ومحاور اتجاهها ، وذلك وفق مسار الامتداد الحضري ، كما ترتبط نشأة المدن بقيام المدينة ذاتها ، وهناك ارتباط كبير مع الدواعي التي أدت إلى نشأة المدينة من أهلها.
      لقد نشأت المدن واقترن ظهورها بتقدم العلم والمعرفة والقدرات الفنية المختلفة كاستعمال المعادن والعجلة وصناعة الأواني وغيرها،وسار التطور العمراني للمدينة العربية عبر التاريخ وحتى أواخر القرن التاسع عشر بشكل منتظم قائم على احترام عاملين أساسيين هما مكان العبادة والسكن، ولكن مع بدايات ا لقرن العشرين ونتيجة الزيادة المطردة للسكان والخلل البين في التوزيع السكاني والمكاني ومع التطور التكنولوجي الهائل في كافة المجالات والغزو الحضاري الفكري الغربي اختلفت الأسس والمعايير التخطيطية القائمة بالمدن العربية وحلت محلها مقاييس أخرى غيرت من شكل مجتمع المدينة العربية.
     سعت العديد من الدول العربية إلى تبنى الأفكار الحضارية الغربية في العمارة والتخطيط ووضعت المعايير التخطيطية وفقا للنظم الغربية، حيث أدى ذلك إلى طمس المعالم والطابع المميز للمدينة العربية الإسلامية، فظهرت المباني ومخططات المدن العربية ذات الشكل الغربي بشكل لا يتوافق مع المعايير التخطيطية الأصيلة التي تحقق الوظائف والاحتياجات البيئة والإنسانية للمجتمع العربي الإسلامي ، وقد سار أيضا العديد من المخططين في تبنى كل ما هو غربي في البناء والتخطيط حتى أصبح هذا الاتجاه هو السائد العام ، وعلى ذلك نجد العمران الحالي في العديد من المدن العربية ليس له أصول من التراث التخطيطي والمعماري بالإضافة إلى خلوه من قيم المجتمع ومقوماته ولا يحقق الاحتياجات والمتطلبات البيئية والإنسانية للسكان ، وإذا استمر هذا الغزو الفكري الغربي على ما هو علية سيؤدى حتما إلى تغير في القيم وبالتالي الاحتياجات لتتناسب مع الوضع الجديد، وبذلك يفقد المجتمع العربي قيمه الحضارية، بينما شكل النمو الحضري المتسارع الذي شهادته العديد من المدن العربية خلال النصف الأخير من القرن العشرين عبئاً ثقيلاً على الإمكانيات والموارد المخصصة للمراكز الحضرية، مما جعل تنظيماتها الهيكلية ومؤسساتها الخدمية غير قادرة على تحقيق احتياجات السكان، وعلى الرغم من ظاهرة التحضر ونشؤ المدن في المجتمعات النامية قد سبق نشؤ المدن في المجتمعات المتقدمة من الناحية التاريخية، إلا أن خبرات الأولى عبر العصور المتعاقبة لم تتبلور في تنظيم أو سياسة يستطيع من خلالها التكيف مع المتغيرات السريعة الناتجة عن نمو المدن ولذلك فإن الدول النامية تعاني من التحضر السريع وتواجه العديد من المشكلات المعقدة وشهدت معظم المدن العربية نمواً حضرياً متسارعاً نتيجة لتدفق تيارات الهجرة وارتفاع معدلات الزيادة الطبيعية، وتمركز هذا النمو بشكل واضح في المدن الكبرى، بل كاد ينحصر في مدينة رئيسة كما هو الحال في القاهرة والخرطوم والرياض والدار البيضاء وبغداد التي تعدُ من أسرع الحواضر والمدن نمواً في المنطقة العربية .
وتواجه المدينة العربية حاليا تحديات رئيسة تتمثل في التحديات السكانية المرتبطة بارتفاع معدلات النمو السكاني وازدياد الهجرة من الريف إلى الحضر لقصور برامج التنمية المتوازنة، كما تواجه تلك المدن مشاكل بيئية وتخطيطية وظهور الأحياء العشوائية علاوة على تدني البنية التحتية لهذه المدن .
الهوامش
1-عبد الفتاح محمد وهيبة،في جغرافية العمران،دار النهضة العربية،1980،ص44
2- أحمد كمال الدين عفيفي، "دارسات في التخطيط العمراني "، مطبعة جامعة الإمارات العربية المتحدة،العين، جامعة الإمارات العربية المتحدة، 1988 م، ص 71
3-قحطان المدفعي، "تطور تخطيط المدينة العربية "، المؤتمر الأول لمنظمة المدن العربية، بيروت،. لبنان، 1986 ، ص 63
4-صالح الهذلول، "التحكم في استعمالات الأراضي في المدينة العربية الإسلامية "، ندوة الإسكان في المدينة الإسلامية، أنقرة، تركيا، يوليو 1984،ص8
5-محمد عبد الستار عثمان المدينة الإسلامية مجلة عالم المعرفة- العدد 18 الكويت، آب 1988- ص47.‏
6-  جرجي  زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي 5أجزاء مراجعة حسن مؤنس دار الهلال القاهرة 1968،ص52
7- عبد الباقي إبراهيم، "تأصيل القيم الحضارية في بناء المدينة الإسلامية المعاصر ة"، مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية، القاهرة، مارس 1982،ص18
8- محمد حماد، تخطيط المدن وتاريخه ـ مطبعة المعرفة، القاهرة،1985،ص52
9- قحطان المدفعي، "تطور تخطيط المدينة العربية مصدر سابق،ص71
10-محمود حسن نوفل، التخطيط العمرانى فى الماضى والحاضر، مطابع مختار، أسيوط،1991،ص22
11-قحطان المدفعي، "تطور تخطيط المدينة العربية "، مصدر سابق، 1986 ، ص63
12-عبد الباقي ابراهيم، "المنهج الإسلامي لنظرية التصميم الحضري "، الحلقة الدراسية الرابعة، منظمة العواصم والمدن الإسلامية، الرباط، المغرب، 1991 م، ص 20
13- صالح الهذلول، "التحكم في استعمالات الأراضي في المدينة العربية الإسلامية مصدرسابق ص 28
14-حسن الخياط،التركيب الداخلي للمدن،مجلة الأستاذ، المجلد الثاني عشر،دار الجمهورية،بغداد،1964،ص52.
15-محمد عبد الستار عثمان ،المدينة الإسلامية ،مصدر سابق، ص62‏
16-خالص حسني الاشعب،المدينة العربية،معهدالبحوث والدراسات العربية،بغداد،1982،ص52
17-محمد حماد ، تخطيط المدن وتاريخه ،مصدر سابق،ص19
18-سمير دسوقي،مدينة مكة المكرمة،مجلة البحوث والدراسات العربية،العدد السادس،القاهرة،1995،ص36
19-   P. M . kenrick . Excavations at Sabratha (1948 – 1951 ) Society For The promotion of Roman Studies, Journal of Roman studies, mono Graph . No .2. 1986 , p. 78
20-احمد علي إسماعيل، دراسات في جغرافية المدن ، ط4 ،دار الثقافة والنشر والتوزيع، القاهرة ،1990، ص22
21-محمد عرب نعمة الموسوي ، مدينة صبراتة التركيب الوظيفي والمظهر الخارجي من واقع استعمالات الأراضي دراسة في جغرافية المدن ، رسالة دكتوراه غير منشورة ، كلية الآداب ،جامعة الفاتح ،  2004 ، ص81
22-المدينة العربية واقعها ومستقبلها وتحدياتها للمستقبل، في أعمال المؤتمر العاشر لمنظمة المدن العربية،دبي، المعهد العربي لانماء المدن، الرياض،1994،ص58


























ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق